"حنيناه".. فيلم عن رجالٍ منسيّين في مخيم بلاطة! - هرم مصر

جريدة الايام 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

كتب يوسف الشايب:

 

منذ المشاهد الأولى ينجح الفنان إيهاب عابد في إلقاء القبض عليك كمشاهد، بطريقة آسرة، تجعلك تتابع وتتتبّع خطى فيلمه الوثائقي الفنّي التجريبي الأول، "حنيناه"، بشغف كبير.
الفيلم، الذي يُركز على الوعي الحركي للجسد الفلسطيني في ظل الاحتلال، لا سيما بين الرجال الذين تبلغ أعمارهم 45 عاماً فأكثر في مخيم بلاطة للاجئين بنابلس، هو من بين المشاريع الفنية المشاركة في المعرض الجماعي "نَفس الأرض"، ويحتضنه المعهد الثقافي الألماني الفرنسي بمدينة رام الله، ضمن مشروع "مِشكال".
وخطف صاحب الفيلم عنوانه من مصطلح دارج بين رجال وشبّان المخيم، ويعني انجرار أحدهم إلى عاطفته في موقف بعينه.
ويعالج "حنيناه"، من بين ما يعالجه، آثار الصدمات النفسية لجيل من أبناء أو أحفاد اللاجئين، في ظل الاحتلال المستمر وممارساته الإجرامية، عبر تقنيات الفيلم الوثائقي، بعد ضربها في الخلاط الخاص بمبدعه، مع عناصر بصرية وفنية متعددة، بهدف نقل الواقع العاطفي والاجتماعي لمن يمكن تسميتهم الرجال المنسيّين، باعتبارهم الفئة المهملة بالعادة من التبئير على أكثر من مستوى، أي الأربعينيين والخمسينيين من الرجال على وجه الخصوص.
ويندرج فيلم "حنيناه" لإيهاب عابد، في إطار السينما الإثنوغرافية الأنثروبولوجية، لكونه يتكئ على دراسة وتوثيق أنماط حيوات فئة بعينها ضمن بيئاتها الطبيعية، في سعي لفهم عميق لها من منظور داخلي.
مضموناً نجح عابد عبر الفيلم في استكشاف تفاصيل الحياة اليومية لهذه الفئة من "المنسيّين"، والتركيز عليها دون أن يَغرَق ويُغرِق في العموميّات، كما كان بارعاً في وضْع هؤلاء الرجال في السياقات البيئية والجغرافية والثقافية والاجتماعية والسياسية لحيواتهم، مظهراً انعكاسات هذه السياقات عليهم من جهة، وكيفية تعاطيهم معها تكيّفاً أو دونه من جهة أخرى، مقدماً صورة صادقة وأصيلة للواقع، بعيداً عن التنميط أو المبالغة.
ومن بين أسرار نجاح العمل في تحقيق مبتغاه، برأيي، تلك المراقبة المباشرة والمشاركة الميدانية لشخصيات الفيلم، حدّ "الانغماس"، الذي يتطلب عادة أن يقضي صانع الفيلم فترات طويلة في العيش معهم، ليشاركهم حيواتهم، وطقوسهم اليومية، ما يتيح له فرصة الفهم العميق والتوثيق الدقيق، علاوة على "التدخل المحدود" الذي يظهر جليّاً في الفيلم بحيث يسجل الأحداث دون تدخل كبير أو تعليق صوتي مفرط، ما يمنح المشاهد فرصة لتكوين فهمه الخاص عمّا يراه.
وكان لافتاً ذلك التركيز على التفاصيل البصرية والصوتية، حيث الاهتمام الكبير بتفاصيل الحياة اليومية، عبر التوثيق غير المتكلّف لطريقة اللباس، وإعداد الطعام والشراب، والتفاعلات بين الأفراد، والأهم لغة الجسد، متكِئاً على الأصوات الطبيعية للمكان والأشخاص، ما يعزز الإحساس بالواقعية، دون إهمال الجماليات البصرية، فعلى الرغم من التركيز على الواقعية، لا يتجاهل "حنيناه" وصاحبه الجانب الجمالي للفيلم، بل يسعى إلى تقديم صور مؤثرة تعكس جمال السائد وتعقيداته.
ولم يقف "حنيناه" عند حدود السينما الإثنوغرافية الأنثروبولوجية، فهو أيضاً فيلم مراقبة، ووثائقي اجتماعي، وفيلم بورتريه، ووثائقي يوميّات أيضاً، ولعل ما يميّزه أنه فيلم تجريبي كذلك؟
وتتجلى تجريبيّته هذه، عبر تجاوز الأساليب التقليدية في التوثيق والملاحظة المباشرة، لجهة استكشاف أشكال جديدة للسرد والتعبير البصري، والتفاعل مع موضوع الفيلم، ليس لتقديم الواقع "كما هو"، بل تحدي الطرق التي نفهم بها هذا الواقع، وإثارة الأسئلة حوله بما يعكس وجهة النظر الفنيّة المُغايرة لصانع الفيلم نفسه.
وليس ذلك فحسب، فقد تمكن عابد من اللعب بالشكل السردي، فلم يكن خطيّاً، بحيث كان الفيلم يقفز، واقعاً ومجازاً، بين أزمنة وأماكن مختلفة، بالاعتماد على بنية فسيفسائية، علاوة على الغياب المتعمد للسرد، بحيث ترك المشاهد حرّاً في تكوين قصته الخاصة من خلال ما يراه من مشاهد وأصوات، في تداخل، ولو جزئي، مع خيال ما، لكن بوعي ودون خداع، لاستكشاف جوانب معينة من واقع "المنسيّين" في المخيم، بطريقة فنية، وباستخدام الرموز والاستعارات المشبعة بلغة بصرية غنية بالدلالات والتأويلات، وإن لم تشكل بديلاً للمُباشرة في عديد الأحايين.
وكون الفيلم تجريبياً وإثنوغرافياً في آن، فقد استخدم تقنيات مونتاج غير تقليدية، لخلق التأثيرات العاطفية التي يريد، مع دمج، ولو طفيف لمواد تستحضر الواقع بنفسٍ أرشيفي، مع إضافة طبقات صوتية غير تقليدية، واستخدام الموسيقى بطرق مفاجئة، لخلق جو معين يعبّر عن مشاعر الشخصيات، غير بعيد عن حضور إضاءة غير تقليدية، وزوايا تصوير غير مألوفة، كما هو الحال في معالجة الألوان، مُشكلاً تجربة بصرية فريدة تعكس الحالة النفسية والثقافية والمجتمعية للرجال المنسيّين في مخيم بلاطة، كرمز لنكبة تتواصل، واحتلال لا يزال يشكل مآسي خانقة.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق