كتب يوسف الشايب:
في عملها الفنّي "تتبّع"، وهو أحد الأعمال المشاركة في معرض "نَفَس الأرض"، بتنظيم من مشروع "مِشكال"، تُقدّم الفنانة الفلسطينية رند حمد الله، عبر عمل تركيبي يشتمل على وسائط متعددة وجريدة، استكشافاً بصريّاً وصوتيّاً لتحولات اللغة أو اللهجة الفلسطينية، والتراث الثقافي الفلسطيني، من خلال نهج فني متعدد التخصصات، بهدف رسم خريطةٍ للخطاب اليومي والتحولات اللغوية التي تحدث في المجتمع الفلسطيني، لا سيما بين مختلف الأجيال والمجتمعات، وترجمتها بصرياً، باستخدام مزيج من الصوت والصورة والوسائط التفاعلية.
ويشكّل هذا العمل الفني "محطة لغوية" مدنيّة، تدعو المتلقي إلى التفاعل مع الآثار الباقية الثابتة منها والمتحركة جوّانياً وبرّانيّاً بفعل الاحتلال، خاصة المرتبط بالاقتحامات والمجازر المتكررة، وآخرها المتواصل منذ أشهر في مخيّمات شمال الضفة الغربية، والتسميات الدارجة لمعدات القتل والتدمير الإسرائيلية، والمتداولة على ألسن الفلسطينيين، في تكوين يعكس ديناميكية الخطاب السائد وتغيّراته، خاصة في ظل التحديات التي يواجهها الفنانون الفلسطينيون، لاسيما أولئك الذين يعملون على مواضيع تتعلق بالهوية، بما في ذلك تجزئة الأرشيفات الثقافية ومحدودية الدعم المؤسسي.
يتضمن تصميم العمل الفني طاولة تحوي مادّتين مطبوعتين، أولاهما جريدة تعرض تركيبات بصرية ثابتة هي نتاج بحث مشروع فني يأتي هذا العمل، الذي تولد جراء إقامتها في مقر "دار قنديل" للثقافة والفنون في طولكرم، في إطاره، ودفاتر صغيرة مطويّة صنعتها الفنانة من بقايا ورشات العمل التي كانت تقيمها في موقع إقامتها، كواحدة من الفنانات اللواتي شاركن في الجولة الثانية من إقامات "مِشكال"، وهذه أتيح لزّوار المعرض، أو من يرغب منهم، أخذها إلى حيث يريد.
خلف الطاولة، تعرض على شاشة أعمال فيديو تتكرّر باستمرار، بحيث تعكس الإنتاج المتحرك للمشروع، كما يُصدر مُكبّر صوت تسجيلاً مُستمراً لصوت طائرة إسرائيلية دون طيّار، ما يعكس الجوانب النفسية والأثر الصوتي كجزء من منهجية "تتبّع".
من بين ما ركزت عليه حمد الله، تلك المصطلحات الدارجة للآليات العسكرية الإسرائيلية التي تواصل إعمال جرائمها اليومية بحق الفلسطينيين، ومن بينها: "صرصور"، و"بوز نمر"، و"زنّانة"، و"دي ناين"، و"بحر منوع"، شارحة في الجريدة عن كل منها بالتفصيل.
وأشارت حمد الله إلى أن عملها الفني الذي هو جزء من مشروع فني بحثي أكبر، يهدف إلى تتبع الخطاب اليومي السائد، والذي تشكل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبفعل التقنيات الحديثة، بشكل مغاير ومتغيّر، يمكن وصفه بالعضوي، والخارج عن الطريقة المألوفة المعتادة، وإن بقيت مرتبطة بمضامين الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، أو لجزء منه، تحت الاحتلال، ليس بهدف الوصول إلى فحوى هذا التغيّر ومعانيه، بل الخروج بخريطة بصرية تستخدم الحواس الخمس، لجهة فهم أعمق لهذه المصطلحات.
كان لافتاً، كما كشفت حمد الله، أن المشاركين في الورشات أو المشروع، خلال فترة إعداده في طولكرم المدينة والمخيمات، كانوا يقدمون تصورّات جديدة في إطار العمل الفني، أو مكوناته، وقتذاك، خاصة أن مشروعها تفاعلي الطابع، وهذا ما جعل من الإقامة في مركز ثقافي عريق في مبنى تاريخي عتيق في شمال الضفة الغربية، وسط الاجتياحات اليومية، وأصوات القصف والتدمير الاحتلالي، محوريّاً.
يمكن القول إن هذه المجموعة من العناصر تُقدّم تجربة متعددة الطبقات، تبرز الخطاب الفلسطيني كشكل من أشكال المقاومة، والهشاشة، وليس بعيداً عن المعمار والتخطيط الحضري والمكاني، ففي العمل الفني "تتبّع" ثمة تأكيد على دور الفن كشكل من أشكال المقاومة والتعبير الاجتماعي في ظل الواقع السياسي في فلسطين، عبر نجاحها في تسليط الضوء على إمكانات الأدوات الرقمية والوسائط الجديدة لجهة ابتكار التعبير الفني، بحيث يشكل العمل جسراً بين الأجيال والمناطق الجغرافية، ويعزّز فهماً مشتركاً للتراث الفلسطيني، بشكل يتجاوز حدود الفن المعاصر، كما يعكس كيف يُمكن للفن أن يكون وسيطاً ديناميكيّاً للحفاظ على التراث الثقافي وإعادة تفسيره، عبر الجمع بين المعرفة التقليدية والتكنولوجيا الحديثة لخلق تجارب عميقة وشديدة الحساسيّة في آن، قادرة ليس فقط على إشراك حواسنّا الخمس بل ما يتعداها إلى السادسة والسابعة وما بعدها، ربّما.
0 تعليق