كتب يوسف الشايب:
بدأ الفنان الشاب يحيى الشولي، النازح حالياً في مدينة غزة، رحلة شغفه بصناعة الأفلام، منذ كان طالباً في المرحلة الثانوية، حيث تعرّف على الكاميرا للمرة الأولى، ووقع في حبّها، بل بات شغوفاً فيها، خاصة أنه وعبرها، لاحق إلهام بيئته المحلية والأحداث المحورية المأساوية في جلّها، داخل غزة المدينة والقطاع، ما جعله يخرج بقصصٍ مُصوّرة سردها سينمائياً، رغم تعقيد وصعوبة الظروف المحيطة به، كما مضامين ما يصنع.
ومن قلب يوميّات الإبادة، خرج الشولي، بفيلم روائي قصير يحمل عنوان، "الهرب من فريدة"، وهو أحد المشاريع الفنيّة المشاركة في معرض "نَفَس الأرض" الجماعي، وتحتضنه قاعة المعهد الثقافي الألماني الفرنسي بمدينة رام الله، ضمن مشروع "مِشكال"، المموّل من الاتحاد الأوروبي، وينفذ من قبل معهد "غوته" الألماني والمجلس الثقافي البريطاني، بالشراكة مع تجمع المؤسسات الثقافية للاتحاد الأوروبي (EUNIC) في فلسطين.
والفيلم، المُنتج من قلب الإبادة في غزة، يستكشف في عشرين دقيقة، ولو بشكل مجازي، تلك العلاقات المتناقضة التي تربط الشولي بمدينته أو أطلالها بمعنى أدق، علاوة على تأمله في مفاهيم كبرى، بأسلوب بعيد عن التعقيد، كالحب، والنضال، والرغبة في التحرر على مستويات عدّة، بينها قدرته على اتخاذ القرار حدّ البقاء أو الفِرار.
الفيلم، الذي يُظهر الدمار ومخيّمات النازحين على البحر، ومن اختار العيش فيما تبقى من منزله المدمّر أو أسفله، أو الحياة داخل الخيام، يُعالج ثنائية الهروب والمواجهة، عبر لغة بصريّة مرهفة، تعبّر عن حالة من التوتر النفسي والانهيارات المتتالية، في تجسيد لذلك الصراع الداخلي الذي يعيشه شاب، يجسد دوره الشولي نفسه، في مدينة تنهشها الحرب يومياً منذ قرابة العامين، وبين فترة وأخرى منذ قرابة العقدين، بحيث دفنت أحلامه كما أترابه من الجنسين تحت الأنقاض، رغم محاولاته اليائسة للهروب من ذاكرته، ومن جغرافيّاته التي كانت تشكل محورها، والتي باتت أثراً بعد عين.
لكن محاولاته هذه، لا تصطدم فقط بشغف يتملكه، اسمه غزة، بل بلقاء غير متوقع مع "فريدة" مخطوبته، التي باتت تمثل له ليس فقط الذاكرة الحيّة، بل الواقع الجميل والحقيقي الأوحد، ربّما، في القطاع الذي يتضور ألماً، وينزف جوعاً حدّ الموت.
ويمكن تصنيف فيلم "الهرب من فريدة" باعتباره دراما نفسية، لتركيزه بشكل كبير على التطور العاطفي والنفسي للشخصية المحورية فيه، والصراعات الداخلية التي يواجهها، ولتعامله مع تناقضاته الجوّانية، والشكوك، والمعضلات، التي يعايشها، في سعي صادق، وغير مقصود، على ما يبدو، إلى إثارة استجابة عاطفية قوية من الجمهور، عبر إظهار هذه الصراعات والتحديات بعدسة سينمائية مُكبّرة.
كما يمكن تصنيف الفيلم، في بعض جوانبه، باعتباره واحداً من أفلام "دراما الحرب النفسية"، فهو تجربة بصرية مستوحاة من الذكريات وواقع الحرب القاسي، تهدف إلى إيصال الروابط العاطفية والثقافية، عبر التعمّق في الآثار النفسية للحرب على أهل القطاع وسكّانه، والكشف عن جانب من تأثيرات ضغوطات القتل اليومي، والخوف، والصدمة، وفقدان الأقارب والأصدقاء، والمعضلات الأخلاقية على العقول والقلوب، علاوة على تناوله للعديد من التناقضات التي تولدها الحروب، ما بين التمسك والانفصال، والحب والخذلان، والأمل واليأس، وما بين الرغبة في البقاء على قيد الحياة والرغبة في الحفاظ على الإنسانية، بحيث تتلاشى الحدود بين الواقع والخيال نتيجة التجارب المؤلمة لمن يعيشون الحرب وتُميتهم.
ولا يحلّق الشولي في فيلمه هذا، والذي يستعيد على طريقته "ذاكرة للنسيان" رائعة درويش السردية، بعيداً عن السينما الوجودية، باعتباره يبحث عن معنى الحياة في عالم قد يبدو خالياً من المعنى، ويركز على الفرد وقلقه الوجودي، ما يؤدي إلى استكشاف المشاعر المتضاربة تجاه الوجود والحرية والمسؤولية، علاوة على كونه تجربة بصرية مستوحاة من الذكريات وواقع الحرب القاسي، بهدف إيصال الروابط العاطفية والثقافية للمدينة ومن وما عليها، أو كانوا.
ويرى الشولي أن السينما أداة حيوية للحفاظ على التراث الفلسطيني عبر المشاعر والذكريات، ما يتيح للأجيال القادمة فهم الماضي بما فيه من نضالات مستمرة متعددة الأشكال، كما يرى في الفن السابع أكثر من مجرد أداة للتغيير، على أهمية ذلك، فهو وسيلة للبقاء والتخيل والصمود الذهني في الأوقات الصعبة.
الشولي، الذي يجسّد الشخصية المحورية في الفيلم، يلفت إلى أهمية دمج العناصر الفلسطينية التقليدية في صناعة الأفلام المعاصرة، مسلطا الضوء على استخدام أدوات ووسائط جديدة للتعبير عن المشاعر الداخلية بشكل أفضل وحفظ الذاكرة الثقافية، وهو ما يمكن ملاحظته في التكوين الفني لفيلم "الهرب من فريدة"، بحيث يمزج بين تقنيات الفيلم الروائي، وشيء من تقنيات الفيلم الوثائقي، و"الفيديو آرت"، وفنون بصرية أخرى، ما يعكس إيمانه بأن السينما، كوسيلة مركّبة ومتطوّرة، تتيح تجربة سرد قصصي أكثر ثراء وفعالية، وأكثر قدرة على نقل مشاعر شعبه وتراثه.
0 تعليق