صناديق موسكو: قصة الأرشيفات الفرنسية المُستعادة من روسيا - هرم مصر

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
صناديق موسكو: قصة الأرشيفات الفرنسية المُستعادة من روسيا - هرم مصر, اليوم الأربعاء 10 سبتمبر 2025 08:46 صباحاً

هرم مصر - بعد أكثر من عقدين على أولى عمليات إعادة للأرشيفات الفرنسية من روسيا عام 1994، لا تزال "مخطوطات موسكو" تثير اهتماماً كبيراً داخل الدوائر الأرشيفية، والمجتمع العلمي، والجمهور الواسع في فرنسا. وهو ما يقاربه كتاب "صناديق موسكو: نظرة على الأرشيفات المُستعادة من روسيا من الحرب العالمية الثانية"، الصادر حديثاً عن جامعة رين، تحت إشراف برتراند فونك وصوفي كوري وهيلين سيرفان. وتتعلق هذه الثروة الوثائقية بمواد استولت عليها القوات النازية في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، ثم نقلها الجيش الأحمر إلى الاتحاد السوفياتي.

وقد بلغ حجم الأرشيفات المستردة أكثر من 7 كيلومترات من الورق، منها أكثر من 3 كيلومترات عادت إلى وزارة الجيوش الفرنسية. وتم اكتشاف هذه الوثائق مجدداً في عام 1991 ضمن "الأرشيفات الخاصة للدولة" في موسكو، ما مهد لاتفاقية فرنسية روسية سمحت بإعادتها إلى فرنسا. وقد وصلت أولى الشاحنات المحملة بالصناديق إلى فينكين، المقر التاريخي للديوان التاريخي للدفاع، لتنطلق بعدها عملية ضخمة لفرزها وتصنيفها وإعادة دمجها ضمن الأرشيفات الوطنية.

وقد شكّل هذا المشروع تحدّياً غير مسبوق من حيث الحجم والتعقيد، وتعبّأ من أجله عدد كبير من الأرشيفيين، لا سيما في الديوان التاريخي للدفاع منذ عام 2005، ولكن أيضاً في "الأرشيفات الوطنية"، ووزارة أوروبا والشؤون الخارجية، وقيادة شرطة باريس، فضلاً عن مؤسسات أخرى مثل مركز تاريخ العلوم السياسية. وقد اضطر كل هيكل إلى مواجهة تحديات كثيرة، من خلال دمج كميات ضخمة من الوثائق غير المرتبة، والمختلطة أحياناً مع أرشيفات أخرى، مع أخذ تاريخها الاستثنائي في الاعتبار. وقد أدّى ذلك إلى خيارات أرشيفية متنوعة: فبينما اختارت بعض المؤسسات إعادة دمج الوثائق بدقة في مجموعاتها الأصلية، أنشأت أخرى سلاسل مخصصة لـ"مخطوطات موسكو"، تأكيداً على طابعها التاريخي الفريد.

 

غلاف كتاب ”صناديق موسكو”. (PUR)

 

وقد ساهم استغلال هذه الأرشيفات بشكل كبير في تجديد العديد من المجالات التاريخية. فقد مكّنت وثائق الشرطة العامة، وخدمات الاستخبارات العسكرية، والمنظمات السياسية والنقابية، من تجديد فهم تاريخ المراقبة، والتجسس، والصراعات السياسية في فترة ما بين الحربين. كما تمكّن الباحثون من إعادة قراءة أرشيفات حكومة فيشي المتعاونة مع النازية، والتي كانت معروفة جزئياً فقط، ما غيّر في بعض الأحيان الصورة السائدة عنها. وبالطريقة نفسها غذّت الأرشيفات النقابية، والماسونية، وأوراق الشخصيات السياسية أبحاثاً جديدة، ووسّعت من فهمّ الشبكات النافذة وهياكل السلطة.

وإلى جانب مساهمتها العلمية، تمتلك هذه الأرشيفات بعداً رمزياً قوياً. فمسارها — من النهبّ، إلى النقل عبر أوروبا، ثم إعادة الاكتشاف المفاجئ، وإعادة الاسترداد — يجعلها شاهداً على عنف القرن العشرين. وغالباً ما تُقارن قصتها برواية مثيرة أو فيلم تشويق، ما يثير إعجاب الباحثين ووسائل الإعلام. وتكمن قيمتها التراثية والعاطفية في كونها تمثل ذاكرة أمة فقدت جزءاً من ماضيها ثم استعادته جزئياً. وقد ساهم عرضها علناً، خصوصاً في معارض مثل "تجربة الفوضى"، في توعية الجمهور الواسع بقضايا النهب الثقافي وهشاشة الأرشيفات.

وتجدر الإشارة إلى أن عمليات الاسترداد في عامي 1994 و2000-2001 ليست الوحيدة التي شكّلت هذه القصة. ففي هذا السياق، يُذكّر بعمليات سابقة مثل "مخطوطات سانت بطرسبرغ" التابعة للأرشيفات الديبلوماسية (1969)، أو "مخطوطات بوتسدام" التابعة للديوان التاريخي للدفاع (1989)، والتي تُظهر استمرارية جهود الاسترداد عبر النصف الثاني من القرن العشرين، في سياقات سياسية مختلفة.

كما تطرح معالجة هذه المخطوطات أسئلة أرشيفية جوهرية وفقاً للكتاب منها: هل تجب إعادة دمج هذه الوثائق في أماكنها الأصلية؟ أم الاحتفاظ بها كمجموعة مستقلة؟ هل يمكن التخلص من بعضها، مع أن كل صندوق نجا من مغامرات استثنائية؟ إن هذه المعضلات تُظهر أن الأرشيفيات، بعيداً عن كونها علماً دقيقًا، هي تخصص يمر عبر خيارات تاريخية وأخلاقية وعملية. ولقد أصبح مفهوم "مخطوطات موسكو" فئة مستقلة تحمل في طياتها تاريخاً يغيّر المنهجيات التقليدية للتصنيف. علاوة على ذلك، ساهمت الأبحاث الحديثة في فهم أفضل للعلاقة بين هذه الأرشيفات ومجموعات وثائقية أخرى، لا سيما الأرشيفات الألمانية التي استولت عليها فرنسا بعد عام 1945. ويُعد هذا المشهد الأرشيفي المتناثر، الذي كان غير معروف إلى حد كبير، حالياً قيد إعادة التقييم. وتوفر الدراسة المتقاطعة للأرشيفات المسروقة والأرشيفات المستعادة رؤية أشمل حول انتقال الوثائق أثناء الحرب وبعدها، والمنافع الاستراتيجية التي جُنيتّ منها.

لكن "مخطوطات موسكو" لا تُعد مجرد إرث من الماضي، بل تراث حي لا يزال قيد المعالجة، والتأويل، والتقديم. وبعد أكثر من ربع قرن على عودتها، تستمر أعمال الفرز، وتظل آفاق البحث واسعة. فبينما يحلم الأرشيفيون أحيانًا بإغلاق هذا المشروع الهائل، يرحب المؤرخون بثراء هذه الوثائق المستعادة. فوراء قيمتها الوثائقية، تذكّرنا هذه الأرشيفات بحقيقة جوهرية: إن الأرشيفات تمثل مصلحة استراتيجية. فالاستيلاء عليها أو حمايتها هو سلاح في الصراعات. وهي تمثل ذاكرة الدول، وحمايتها واجب سيادي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق