جُبرانان في وطنٍ واحدٍ - هرم مصر

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
جُبرانان في وطنٍ واحدٍ - هرم مصر, اليوم الاثنين 8 سبتمبر 2025 12:57 مساءً

هرم مصر - ريمي الحويك 

 

 

 

لو كانَ جُبران تويني ما زالَ بينَنا اليوم، لكانَ يجتاز ضِفافَ الثّامنةِ والستّينَ من عُمرهِ الثّائر، يحمِل على كَتِفَيْه غُبارَ المعارك، شَعرُهُ مَشوبٌ بفضّةِ الرَّماد، وصوتُهُ يهدرُ كالرّعدِ في ساحاتِ بيروت، صاعِقاً الصّمتَ، قاهِراً الخوفَ، مُواجِهاً الزّوابِعَ، ومُقاوِماً رياحَ الرّصاص والنار.
وُلِدَ جُبران في الخامسِ عشرَ من أيلول، يومَ كانت بيروت تتعطّر بمَدادِ الكتبِ، تتلألأ بحروفِ الشِّعرِ، وتنامُ على وِسادةٍ من حِبرٍ وصُحُفٍ وقصائد. نشأَ وهو يسمعُ همْسَ القلمِ على الورق كأجراسِ الفجرِ، ويرى في كُلِّ كلمةٍ نواةً لوطنٍ حُرٍّ لا يُطأطِئُ رأسَه.

 

beiut_104601_large_125302.webp

 

لكنَّ غُرْبانَ اللّيلِ وأنظِمَةَ الأَقْبِيَةِ، جَوْقَةٌ لا تَفْقَهُ سوى الحروبِ والقتلِ والتّجارةِ بشمسِ الوطنِ وظِلالهِ، حتّى بملائكَتِهِ، فِرْقَةٌ لا تعزِف سوى نوتّات السكاكين والمتفجّرات، طارَدوهُ في عُزلَتِهِ الباريسيّة، وأمطَروهُ باتِّهاماتِ الخيانةِ، حتّى شَدَّ رِحالَهُ لِلعودةِ والمواجهةِ، فاستَقبَلوهُ بألغامِ الغدرِ وكمائِنِ الحقدِ. عُشّاقُ الموتِ أولئكَ، ضباعُ الفجرِ والنّجرِ، قرّروا في الثّاني عشرَ من كانونِ الأوّل 2005، أن يُطْفِئوا نورَ جُبران تحتَ شمسِ النّهار، في زمنٍ كانت فيه المنطقة تتأجّج بالاضطرابات والفوضى وكانت سوريا تَجُرُّ أذْيالَ انسِحابِها العسكريّ من لبنان تحتَ ضغطِ ثورةِ الأَرز فيما تَمْتَدُّ أذرُعُها عبر حلفائِها كأصابعِ دُخانٍ، تنحرُ أعناقَ الأرواحِ المُتمرِّدة وتقتلِعُ القلوبَ الثّائرة.
اليومُ، لو كانَ جُبران بيننا، لكانَ في الصُّفوفِ الأماميّة، يصرخُ في وجه من يُحَوِّل لبنان إلى ساحةٍ لتصفيةِ الحسابات، يقِفُ كالطَّوْدِ في مواجهةِ مُعادلات السّلاح والتّهديد، ويرفُضُ كُلَّ وصايةٍ، سواءٌ لبِست عباءةَ الأُخُوّة أو رَفَعت رايةَ المقاومة.
وكانَ، بعيداً عن ضجيجِ السّياسة وخَلفَ ستائرِ الجريدة، أباً يضع قلبَهُ أمامَ مستقبَل بناتِه، يسيرُ بجانبهِنَّ كظلٍّ من أمان، يضحكُ مع أحفادِهِ حتّى تلمَعَ عيونُهُم فرَحاً، يزرعُ فيهم حُبّ لبنان كما يزرع الفلّاح قمحَ الرّبيع ويُسقيه برواياتِ التّاريخ، كانَ سيحتفِل بأبسط لحظاتِهم اليوميّة كما لو كانت أعياداً وطنيّة، يَقِصُّ لهم خبايا الحياة مُذ كان سُنبُلةَ قمحٍ ندِيّة إلى أَن ارتقى إلى سنديانةٍ مُثقَلة بالأغصان، ويُعَلِّمهُم أنّ الأرضَ لا تُحَبّ فقط بالكلمات، بل تُعانَق بالسّواعدِ والدّعوات، وتُفدى بالمِقَلِ والحَيَوات.
انتقلَ جُبران إلى حِضنِ السّماء، لكنَّ روحَهُ، كطائرِ فينيقٍ متمرِّد، ما زالت تطوفُ فوقَنا، تهمِسُ في آذاننا، وتدلُّنا على الدّرب.
نامَ جُبران وما نامتِ الأرضُ الّتي أَحبَّ، مُذ رَحيلِهِ وهي ترقصُ على أنغامِ الأحداث، ولو أصغَينا إليهِ اليوم، لَسمِعناهُ يُخاطب قلوبَنا قائلاً:
أيُّها اللُّبنانيون،
عقدانِ انقَضَيا على اغتيالي، تغيّرَت فيهما خرائطٌ، سقطت أقنِعةٌ، تفكّكت أنظمةٌ، انهارت جبالٌ، تهاوت محاورٌ، واضمحلّت وجوهٌ.
كُلُّ يدٍ امتدَّت لِذبْحِنا، شُلََّت.
كُلُّ من ظنَّ أَنّهُ يَقتُل الكلمةَ، ماتَ في صمتِ التّاريخ.
حتّى"أسدُ الغابةِ" نفسَهُ، نَهَشتهُ أنيابُ الذّئاب.
أنا، جُبران غسّان تويني، نَجْلُ هذهِ الأرض، أقِفُ أَمامَكم كما وقفتُ يومَ أقسَمْنا معاً في ساحةِ الشّهداء "أقسم بالله العظيم دفاعاً عن لبنان العظيم"، ظَنّوا أنَّ القَسَمَ يموتُ باغتيالي، جَهِلوا أنَّ الصِّدّيقَ كالنَّخلةِ يَزْهو وكالأَرزِ في لُبنانَ يَنمو.
لبنانُ، لا يُستعاد على موائدِ الغُرباء، بل بسَواعدِكُم أنتم. أنتم الشّرعيةُ، أنتم الحِصنُ، أنتم من يملِكُ الحَقّ في رسمِ فجرِهِ، لا تركَعوا لسلاحٍ رديفٍ، لا تُساوِموا على الحقِّ، ولا تنحَنوا إلّا "لِسماءِ الله".
الثّلج إجا وراح الثّلج، عِشرين مرّة إجا وراح الثّلج، وما زالت روحي تَحومُ فوقَ بيروت، تبحثُ عن وجهِها بين الأزقّة والعيون،
أشتاقُ إلى السّهلِ والبحرِ والجّبال،
أشتاقُ إلى النّاسِ والموسيقى ورغيفِ الخُبز،
أشتاقُ إلى الخَيلِ واللّيلِ والبيداء،
أشتاقُ إلى الكنيسةِ والحديقةِ والكِتاب،
لم يُبعدني القتلُ عن غُصونِ الغارِ والزّيتون، ولم يُنهِ الموتُ عِشقي للحياة ولِلُبنان، سَمانا بِبالي، جَبَلنا بِبالي، سَمانا وجَبَلنا بِبالي....
ابنتي نايلة، حينَ تزورينني وتُسمِعينني أغنية "MY WAY"، أشعرُ أنّني أستعيدُ طريقي المفقود، أقرأُ كلماتكِ الجميلة الّتي تُشاركينَها كُلَّ عام، أتأمَّلُ الصّورَ الّتي تَنْشُرينَها، وأستمِعُ إلى الأغاني الّتي تَحمِلُ ذِكرَياتنا. أَسمَعُكِ يا ابنتي الحبيبة وأشعُرُ بكِ، فَثِقي دائماً أنَّ قلبي راضٍ عنكِ وأنَّ الإنجاز الّذي حقَّقتِهِ يفيضُ على روحي بسعادةٍ وفخرٍ واعتزاز. أمّا حينَ ألمَحُ الحُزنَ والقهرَ على غِلافِ عينيكِ، تَئِنُّ روحي وتتأوّه، فلا تحزني يا جميلتي، يا قلبُ روحي.
وأَنتِ يا ميشيل، حين تفرشين وُرودَكِ فوق التُّراب، يتسرَّب عَبَقُها إلى روحي، فأنا وإن اعتَدْتُ على رائحةِ البُخور، لا زلتُ أشتاقُ بين حينٍ وآخر إلى رحيقِ الزُّهور. وكم يُضمِّدُ نَزفي أن أراكِ تحتفلين بميلادِ حفيدي "كايان" في ذِكرى ميلادي، كأنّكِ تُشَيِّدينَ جسراً بيني وبينَهُ، وما زال في جسورة بهالأرض مشرورة، بدّن يضلّوا الناس يِجوا لعند الناس وتزورنا الدنيي وِنزورا ....
غابرييلا ونايلة، توأمَيّ، كم حلمتُ أن أكون ظِلَّكُما في النّهارِ وسندَكُما في العتمة.
أصدقاءُ عُمري ودربي، أفرحُ حينَ تزوروني وتسكُبون أشواقَكُم فوق تُرابي، أسمعُ صلواتكُم حين تختبِئ في دموعِ وساداتكُم، وأشمُّ رائحةَ قالب الحلوى الّذي تصنعونَه اليوم، رائحتُهُ عبرَت إليّ بلا دعوة، ضَلّوا افتِكروا فيّي، كل ما رِجعت الشتويّة....
أبتهجُ حين أبحرُ عند كلّ فجرٍ في جريدةِ "النّهار"، بين مَوانِئَ عناوينِها، فأرى السّفينةَ تَمخُرُ بثباتٍ نحو الحقّ، لا تُعصِف بها رياحُ التّهديد، ولا تُغَيِّرُ مسارَها عواصفُ الوعيد.
يغمرُ روحي السّلامُ وأنا أرى جائزةً تحمِلُ اسمي تُمنَح تكريساً لِحرّيّةِ الصّحافة، اثبُتوا على العَهد ولتَكُن الحرّيّة بوصِلَةَ دَربِكُم وَنِبراسَ مَسيرَتِكُم.
كُلُّ ما تَفعَلُونَهُ لِيَصِلَنِي، يَصِلْ.
تمسّكوا بالجسرِ المُعلَّق بيننا، فإن غابَ طَيفي عنكم طويلاً، فأنا أتوارى لكنّي أعودُ لأُبعِثَ لكُم رسائلي مع كُلِّ يدٍ تمتَدُّ نحوَ السّماءِ دُعاءً من أَجلِ لبنان.
أمّا أنا، ابنةُ هذهِ الواحةِ الصّامدة، فِلذةُ كَبِدِ هذه البقعة الأبيَّة، أشهَدُ أنَّ لِلُبنانِنا جُبرانين،
جُبران خليل جُبران، من أضاءَ الكلمةَ من وراءِ البِحار.
وجُبران غسّان تويني، من وَثّقَها بدمِهِ المُقدَّس على تُرابِ الوَطن.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق