كتبت بديعة زيدان:
وصف الطبيب البريطاني من أصول عراقية محمد طاهر، جرّاح الأعصاب الطرفية والعظام، ما يعيشه سكان قطاع غزة جراء حرب الإبادة المتواصلة في قطاع غزة، منذ ما بات يقترب من عامين، بأنه أشبه بـ"فيلم رعب".
وتجربة طاهر، الذي كان يخلص أجساد الغزيّين في القطاع المنكوب من الرصاص ما أمكن له، هي محور الفيلم الوثائقي "المهمة"، وعرض مساء أول من أمس، في قاعة مسرح الرينبو بالعاصمة الأردنية، بحضوره والمنتج البريطاني مايك ليرنر، ضمن فعاليات مهرجان عمّان السينمائي.
لم يكن الفيلم تلفزيونياً خالصاً، بحيث لم يكتفِ بحوارية مع الشخصية المحورية للفيلم، والمحيطين فيه، خلال تجربته داخل قطاع غزة، وتحديداً بين جدران مستشفى شهداء الأقصى، أو من قام بعلاجهم، أو عائلاتهم وأحبائهم، فعلى مدى ساعة ونصف الساعة، تابع الحضور يوميات الغزيين الدامية من خلال الجرّاح البريطاني ذي الأصول العراقية، بل اقترب كثيراً من جراحهم، مجازاً وواقعاً، فالكاميرا كانت توثق الجراح المفتوحة، بحيث يلاحظ المشاهد كم الحقد الاحتلالي الذي انعكس على أجساد المصابين، ومن قبلهم الشهداء، حيث يكاد يلامس الواحد منا ملاقط الطبيب وهي تسحب الرصاصات أو الشظايا بالقرب من شريان إن أصابته لكانت قاتلة، أو ليس بعيداً عن قلب لا يزال ينبض، ولو بشكل أبطأ من الطبيعي، أو من بين العظام حتى، ما يجعل منه لمن لا يعرف حقيقة الفاجعة المتواصلة في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، "فيلم رعب" فعلاً، كما وصفه الجرّاح.
الإصابات التي كان يتعامل معها طاهر، غير مسبوقة بالنسبة له، فلم يكن في مشواره الطبي قد صادف إصابات بهذه الشدة والصعوبة من قبل، لكنه وكما أشار في الفيلم والحوارية التي تلته، اعتاد على مشاهدة هذه الإصابات الصعبة بحكم وجوده لفترات طويلة في القطاع، قائلاً: "مع مرور الوقت أرى حالات صعبة جداً، وبتر أطراف وحروقاً شديدة لأطفال ونساء".
الجرّاح، الذي دخل إلى القطاع المنكوب في ثلاث مهام إنسانية خلال الحرب المتواصلة، وكان شاهداً من بين ما شهد على مجزرة الاحتلال التي استهدفت خيام النازحين في المستشفى الذي كان يعمل فيه.. يتذكر بتأثر: من أصعب ما يعلق في الذاكرة، وكثيرة هي اللحظات الصعبة، كانت في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، ففي ذلك اليوم وصلت إصابات كثيرة من بينهم أطفال، وكان أحدهم مرمياً أرضاً ومتروكاً برأسٍ مضمّد عشوائياً.. تُرك يموت وحده، وأنا، وسط الفوضى والصراخ والدماء، ذهبت إليه ومسكت يده ومسحت على صدره كي لا يموت وحده.
وأشار إلى أن الضربة الإسرائيلية التي استهدفت خيام النازحين في مستشفى شهداء الأقصى، أدت لاستشهاد الكثير من الغزيين، واحتراق آخرين أمام عينيه، متساءلا: "كيف يُمكن للإنسان أن يتقبل هذا؟ أين ضمير العالم خاصة العرب والمسلمين؟ كيف يتحملون أن يشاهدوا هذه المناظر ولا يتحركون؟!"، هو الذي تسللت الدموع إلى عينيه واقتحمت حنجرته، فتقطع صوته.
في الفيلم أيضاً بكى الجرّاح طاهر، تأثراً بموقف تلك الأم الفلسطينية التي كانت تشكره، لأنه أجرى جراحة ناجحة لجسد ابنها المتشظي، هو الذي كان يبكي في كل مرّة يغادر فيها غزة، بينما يتواصل القتل بشكل غير مسبوق في العصر الحديث.
واللافت أن التصوير تمّ بمجهودٍ شخصي من الفريق الطبي، دون الكشف عن أسماء المصوّرين لأسبابٍ أمنية.. وعن ذلك قال طاهر في الحواريّة التي تلت الفيلم: في البداية لم تكن هناك خطة لتحويل مهمتي في غزة إلى فيلم، لكن نصائح عدة من حولي نجحت في إقناعي بالأمر.. لاحقاً، وعندما بدأنا التصوير في غزة، أدركنا أن ما سنقدّمها للعالم رسالة إنسانية نفتح من خلالها أبواب مستشفيات وغرف عمليات غزة أمام الرأي العام العالمي.
ولا يقتصر التصوير داخل المشافي، بل تلاحق الكاميرا الجرّاح ورفاقه من المتطوّعين في جمعيّة "الفجر العلمي"، وهي مؤسسة غير حكومية تكرّس جهودها لتقديم الخدمات الطبية للأشخاص المحرومين منها في مختلف جغرافيا العالم، لذا نرافقه في "المهمة" من شمال القطاع إلى جنوبه، متجولاً إلى حيث مستشفيات القطاع المتعددة، في مشاهد خارجية، علاوة على تلك التي توثق ما يحدث في غرف العمليات، لتنقل ما لا يمكن وصفه.
الجرّاح الذي أكد كما المنتج أن "كل المحتوى حقيقي، فلا نصوص، ولا تحضير، ولا إعادة تمثيل هنا"، أشارا إلى أن مهرجان عمّان السينمائي الدولي شهد العرض الأول للفيلم في مهرجان، وأن عروضاً تنتظم في صالات عرض تتبع مؤسسات بعينها في بريطانيا وأوروبا، في حين كشف طاهر أنه يستعد لإطلاق منصة تُجمَع من خلالها المساعدات لأهالي القطاع، خاتماً: "أكثر ما فاجأني في أهل غزة، أنهم رغم الفاجعة، لم يفارقوا يوماً إيمانهم"، إنهم يشكلون حكاية "ألم لا ينسى، وصمود يتحدى المستحيل".
0 تعليق