(1)
لو عاد بي الزمن إلى عام 1992، لاخترت وأنا في البوسنة والهرسك أن أكتب رواية، لا أن أكون مراسلا في حربها!
صحيح أن واجب الوقت هو ما يفعله المراسلون في أي حرب، يرسلون تقاريرهم الإخبارية والتي لولاها ما علمنا ما تفعله المدافع والصواريخ بالناس، لكن تلك التقارير في الحقيقة تسجل العناوين العريضة لوقائع الحرب ولا تتجاوزها، وبرأيي هناك ما هو أهم.
تفاصيل حياة الناس في الحرب بشعة إلى درجة لا يتخيلها إلا الذين تورطوا فيها يوما ما، أما المتلقون لأخبارها فإنهم يتابعون باهتمام عدد الضحايا وصورهم والدمار الحاصل، لكن لا يتصورون تفاصيل حياة الناس اليومية في ظل الصواريخ التي تنهال على رؤوسهم، فيما إمدادات الكهرباء والماء والتدفئة والمواد الغذائية مفقودة، لذلك تمنيت لو كنت حينها روائيا، أسرد في رواية تفاصيل هذه الحياة البائسة.
(2)
لو كنت روائيا في حرب البوسنة والهرسك، لتحررت من قيود "الحيادية" التي تفرضها التقارير الإخبارية، لقلت كل ما أراه، وما أشعر به، ولسردت كل ما لدي من حكايات البسطاء، وليس تصريحات القادة الكاذبة، ولتجاوزت الوقائع العسكرية لأصف ما يجري على الجانب الإنساني والروحي والنفسي.
الروائي في الحرب صانع ذاكرة، شاهد ومؤرخ، وهو يكتب ما يكتب وهو في الحقيقة يعيش الحرب كضحية ليشارك بروايته فيما يسمى "الأدب الشاهد"، الذي يسجل حقيقة ما يدور في الأوطان إذا ما أصابتها جائحة العدوان.
لقد نجح ضحايا المحرقة السابقة- جناة المحرقة الحالية- في تشكيل عقول أجيال في الغرب، ليس عبر دراسات ووثائق وتقارير إخبارية، ولكن عبر حكاياتهم: حكاياتهم التي تحولت إلى روايات وأفلام تعج بها شاشات العالم، تتحدث وتروي بالتفاصيل ما جرى لليهود على يد هتلر، فيما انزوت التقارير الإخبارية في رفوف الأرشيف.
الروائي في الحرب يدرك دوره جيدا، إنه يدلي بشهادة للتاريخ، ويواجه جريمة النسيان، وإذا كانت الأجيال الحالية عاجزة عن النصر، فإن الروائي يقدم للأجيال المقبلة ما يمكن أن يعينها، إما للانتقام من الجناة، أو للحيلولة دون تكرار المأساة.
إعلان
الروائي في الحرب يبحث عن المعنى، فكل الأسئلة الصعبة في الحياة تفجرها الحروب: لماذا يحدث ما يحدث، هل هو المعتقد، أم الأطماع، أم القومية، أم غيرها؟ كيف يفسر المرء بشاعة ما يجري؟ كيف يمكن لإنسان أن يمتلك كل هذا القدر من الشر، ثم ينصرف ليعيش حياته العادية؟ كيف نفك لغز الإنسان؟
الراوي يسجل معاناة الناس اليومية من جوع، وخوف، وفقدان، فيما المراسل مشغول- وله الحق وهذا دوره – بالوثائق العسكرية والسياسية المتعلقة بالمعارك والخطط، إنه التوثيق الإنساني مقابل التوثيق العسكري، إن الراوي يفضح الكلفة الإنسانية للحروب، إنه صوت للمنكوبين، ولسان حال من لا صوت لهم.
(3)
وقعت في يدي رواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"، والتي تنتمي إلى أدب الحرب، صدرت الرواية عام 1929 للألماني إريك ماريا ريمارك، وخلفت صدمة مجتمعية تجاوزت ألمانيا إلى العالم، حيث تُرجمت سريعا إلى عشرات اللغات، وتحولت بعد عام واحد إلى فيلم سينمائي في هوليود حصل على جائزة الأوسكار.
لكنها في الداخل الألماني أثارت جدلا كبيرا، إذ رآها القوميون إهانة لذكرى الجنود الألمان وتشويها لصورة الوطن، فشنت التيارات النازية حملات منظمة ضدها، وأحرقت نسخها في الساحات العامة عام 1933.
وهذه برأيي وظيفة الرواية الصادمة، فقد كانت بمثابة شهادة ضد الروايات القومية التي مجدت الحرب، وكشفت زيف الصور البطولية التي روجتها الدعاية الرسمية.
إريك ماريا ريمارك لم يكتب روايته الأشهر من فراغ، بل صاغها كشاهد وحكّاء متورط، فقد جُند وهو في الثامنة عشرة، في الجيش الألماني عام 1916، خدم على الجبهة الغربية، عاش الخنادق الموحلة، ورأى زملاءه يسقطون واحدا تلو الآخر، وهناك أصيب بجروح خطيرة فنقل إلى المستشفى، ليقضي فترة طويلة من الحرب تحت العلاج.
وقد لفت نظري أن هذه الرواية كانت أول عمل روائي مهم لكاتبها، قبلها كان قد جرب الكتابة تحت اسم مستعار، ونشر بعض النصوص غير المعروفة، ولم تلقَ نجاحا.
ولعل من أسباب نجاح روايته، لغته المباشرة والبسيطة والعارية من الزخرف، فلم يكن بحاجة إلى التجميل أو المبالغة. بل جاءت كلماته جافة في أكثر الأحيان، واقعية دائما، تنقل القسوة كما هي: الطين، الصرخات، الجوع، رائحة الموت.
لم يتحدث إريك عن المعارك الكبرى أو الخطط الإستراتيجية، بل ركز على الأشياء الصغيرة التي يعيشها الجندي: قطعة خبز، سيجارة، نوبة خوف ليلية.
هذه التفاصيل لا يكتبها مؤرخ، بل جندي سابق يعرف أن الحياة في الحرب تختصر في تفاصيل تافهة لكنها حاسمة للبقاء: توزيع الطعام، البحث عن سجائر، انتظار البريد، أو محاولات الهروب القصيرة من قسوة الواقع.
هذه اللغة البسيطة خلقت قوة هائلة للرواية، إذ جعلت الألم محسوسا بلا وسائط، وجعلت الجنود- وهم مجرد شبان في الثامنة عشرة- نماذج إنسانية عالمية يمكن أن يتماهى معها أي قارئ، مهما كان موقعه من الحرب.
(4)
بالتأكيد هذه الرواية ليست وحدها، فقائمة روايات الحرب طويلة جدا، وبالطبع نتذكر إرنست همنغواي، وروايته الشهيرة "لمن تقرع الأجراس" عن الحرب الأهلية الإسبانية، وفيها نقل تفاصيل المقاومة الشعبية والمعارك، وسلط الضوء على مشاعر الخوف، والحب، والانكسار، تلك المشاعر التي تستنزف الناس في الحرب.
إعلان
وقد كتب أيضا "وداعا للسلاح" خلال الحملة الإيطالية في الحرب العالمية الأولى، وقد حُولت روايته إلى مسرحية، ثم فيلم، ثم مسلسل تلفزيوني.
أما معركة ستالينغراد الشهيرة، التي وقعت عندما غزت ألمانيا النازية الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، فقد نالت نصيبها من الروايات، ومنها "الثلج الحار" للروسي يوري بونداريف، ورواية الروسي فاسيلي غروسمان الذي عنون روايته باسم "ستالينغراد".
أما "نصف شمس صفراء"، فقد كتبتها شيماماندا نجوزي أديتشي، وتدور أحداثها خلال الحرب الأهلية في نيجيريا في أواخر الستينيات، حين انفصلت جمهورية بيافرا المتمردة الغنية بالنفط عن البلاد في عام 1967، مما أدى إلى صراع نجم عنه مقتل مئات الآلاف من المدنيين.
وبالتأكيد كُتب عن فيتنام ما كتب، كرواية "حزن الحرب" لصاحبها باو نينه مقدما رؤية من الداخل لمعاناة الجنود الفيتناميين، لا كأبطال فقط، بل كبشر محطمين.
(5)
ربما من العبث أن نطلب من الغزي، الذي يتنقل كل يوم بين خيمة وأخرى، بحثا عن ملجأ، المهموم بتأمين ما يحتاجه وأسرته من ماء وخبز، أن يجلس ويكتب لنا رواية، لكنه قد يعد لها، يلملم أطرافها، يرسم خيوطها العريضة، لتأخذ مكانها لاحقا ضمن "أدب محرقة غزة".
فليسجل الرواة كل التفاصيل، فليحفظوا كل الأحاديث، فليطبعوا شكل الوجوه في مخيلتهم، فهناك ألف ألف حكاية يجب أن تُروى.
ليس بالضرورة أن تكون روائيا متخصصا، اكتب شهادتك الشخصية، فكم من شهادة شخصية تحولت إلى نص أدبي مؤثر، على يد صاحبها، أو على يد متخصصين.
اكتب كل ما تعيشه وتراه، اكتب عن نفسك، عن جيرانك، صف كل شيء، لجيل سيأتي لاحقا من حقه أن يعرف ما جرى.
اكتب للأجيال المقبلة، فنحن لا أمل فينا.
اكتب يومياتك، وذكرياتك، ومشاهداتك.
الروائي يطلق خياله لينسج حكايته، وأنت لديك الواقع الذي تعيشه أشد حبكة مما يمكن أن يطلقه الخيال.
ثم هل نطلق على هذا العمل رواية بالمفهوم المهني، أم كتابة؟
لا بأس.. العالم يتغير.. ومفاهيمه تتغير، المهم أن تسجل ما تحاول ماكينة الإعلام العالمي تجاهله.
لن يتبارى الروائيون العالميون في كتابة قصتك.
لن يكتب قصتك إلا أنت.
الذين خرجوا في الطوفان من الخنادق، كانت أسلحتهم بدائية، لكنهم هزوا الكيان، بل والعالم كله.
نعم، الثمن غالٍ، ولذلك لا نريد لهذا الثمن أن يذهب هباء.
فليكن، إذن، طوفان الحكاية عن غزة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق