Published On 2/9/20252/9/2025
|آخر تحديث: 21:06 (توقيت مكة)آخر تحديث: 21:06 (توقيت مكة)
تمتزج أسرار التاريخ بعبق الطبيعة في أرض ظفار العمانية، ويشكل اللبان شريان حياة وتجارة ينبض منذ قرون. هذا الكنز الذي يطلق عليه السكان المحليون "الذهب الأبيض"، ليس مجرد راتنج عطري، بل هو ذاكرة أمة وإرث حضارة، يحرص أهل المنطقة اليوم على حمايته وصون طقوس حصاده العريقة، وتطوير طرق تصنيعه ليواصل رحلته الأسطورية في صناعة العطور الفاخرة ومنتجات العناية العالمية.
تحت ظلال شجرة عتيقة في وادي دوكة، الذي يعد أكبر محمية لأشجار اللبان في العالم بحسب السلطنة، يجلس السبعيني عبد الله محمد علي جداد، الذي ولد وعاش في هذا الوادي، متأملا إرث أجداده. يقول لوكالة فرانس برس بصوت يحمل حكمة السنين "اللبان بالنسبة لنا أغلى من الذهب، هو كنز". يسترجع علي جداد ذاكرة الماضي قائلا "كنا نعيش من تجارة اللبان، نحصده ونذهب به إلى صلالة لمقايضته بمواد غذائية وملابس وسلع مختلفة".
اليوم تغيرت أساليب التجارة، لكن جوهر العلاقة مع الشجرة المقدسة لم يتغير. فقد تولت شركة متخصصة إدارة المحمية وحصاد الأشجار وبيع اللبان، مستندة في ذلك إلى الخبرات العميقة لعبد الله وأبنائه وأهالي الوادي الذين توارثوا هذا الفن جيلا بعد جيل.
يمتد وادي دوكة، المدرج ضمن مواقع التراث العالمي لمنظمة اليونسكو منذ عام 2000، على مساحة تفوق 14 كيلومترا مربعا، وتتناثر في أرضه القاحلة نحو 5000 شجرة، بين مثمرة وغير مثمرة، شاهدة على تاريخ طويل من العطاء.

إرث يعادل النفط
يستخرج اللبان، وهو راتنج عطري فريد، من شجرة "البوسويليا" التي تعد من أثمن كنوز الطبيعة التي اشتهرت بها ظفار، وهي واحدة من الأماكن القليلة في العالم التي تنمو فيها هذه الأشجار المباركة. ويوفر موسم الخريف (الخريف) المميز لجنوب سلطنة عمان، الذي يمتد بين نهاية يونيو/حزيران وأواخر سبتمبر/أيلول، مناخا مثاليا لنموها بفضل الرياح الموسمية التي تهب محملة بالرطوبة والخير.
إعلان
يتميز اللبان برائحته الفريدة وفوائده الصحية العديدة، وقد استخدم عبر التاريخ في البخور والطب التقليدي وحتى الطقوس الدينية المقدسة. واليوم، يستخرج منه زيت ثمين يدخل في صناعة أرقى العطور العالمية ومواد العناية بالبشرة.
منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، انطلقت تجارة اللبان من ظفار عبر طرق القوافل البحرية والبرية، لتعطر حضارات العالم القديم، من بلاد الرافدين ووادي السند ومصر الفرعونية، وصولا إلى الإغريق والرومان والصين.
وعلى مسافة نحو 40 كيلومترا شرق ساحل صلالة، يقف موقع خور روري الأثري شامخا، حيث كان ميناء "سمهرم" القديم المطل على المحيط الهندي بوابة اللبان إلى العالم. يقول مدير الموقع أحمد المرشدي لفرانس برس "اللبان كان يعادل تقريبا النفط حاليا"، في إشارة إلى القيمة الاقتصادية الهائلة التي كان يمثلها.
وقد أدرجت منظمة اليونسكو أربعة مواقع في محافظة ظفار تحت اسم "أرض اللبان" في قائمة التراث العالمي، وهي وادي دوكة، وخور روري (ميناء سمهرم)، ومدينة البليد الأثرية، ومدينة شصر (أوبار)، تكريما لهذا التاريخ العظيم.

فن الحصاد وسر الجودة
لا يزال اللبان حاضرا بقوة في حياة أهالي المنطقة كمورد اقتصادي وجزء لا يتجزأ من هويتهم وذاكرتهم الجماعية. يوضح عبد الله جداد، وهو يجمع حبات اللبان التي جفت وتصلبت فوق إحدى أشجار وادي دوكة، أن النوع الموجود هنا هو "النجدي"، وهو واحد من أربعة أصناف رئيسية إلى جانب "الحوجري" و"الشزري" و"الشعبي".
بعد جمعه، ينظف اللبان بعناية من رقائق الخشب والرمال وأي شوائب، ثم يباع في الأسواق على شكل حبات عطرية صلبة بأحجام وألوان متباينة، أو يتم تقطيره ليستخدم في الزيوت العطرية والمستحضرات، كما هي الحال بالنسبة للبان المنتج في محمية وادي دوكة. تختلف درجة الجودة بحسب النوع والنقاء، حيث يتسم اللبان الأعلى جودة والأندر بلون يميل إلى الأخضر الفاتح.
يستخدم النوعان النجدي والحوجري لأغراض علاجية، وفقا لفيصل حسين بن عسكر، أحد أبناء مؤسس محل "بن عسكر" العريق لتجارة اللبان منذ خمسينيات القرن الماضي. يشرح ابن عسكر "كلما كان اللبان أنظف وأنقى يكون صالحا لشربه علاجا، والباقي يستخدم بخورا". ويضيف أن هناك مصانع عدة في محافظة ظفار تستخرج من اللبان مواد تجميل تنتشر في الأسواق المحلية.
لا تتطلب شجرة اللبان الكثير من الماء، إلا أن حصادها، الذي يتم خارج موسم الخريف، هو عملية حرفية دقيقة توارثتها الأجيال. يقول مسلم بن سعيد جداد، وهو شاب من أبناء الوادي يبلغ من العمر 28 عاما، "نضرب الشجرة في أماكن معينة وقليلة نحو خمس ضربات". ويشير إلى أن هذه العملية تتطلب خبرة ومعرفة عميقة بالشجرة، فـ"ليس بإمكان أي كان شق شجرة اللبان.. فقد تموت أحيانا". وتؤكد ذلك مسؤولة في متحف "أرض اللبان" في صلالة، قائلة بعبارة بليغة "شجرة اللبان سريعة الغضب".

نحو مستقبل مستدام
في عام 2022، وفي خطوة رائدة، أبرمت دار العطور العالمية العمانية المنشأ "أمواج" شراكة مع وزارة التراث والسياحة في السلطنة بهدف حماية موقع وادي دوكة وتطويره وتوفير فرص عمل للمجتمع المحلي. أطلقت الشركة خطة طموحة للاستدامة، حيث بات الحصاد يقتصر على حوالي 250 شجرة فقط من بين ألف شجرة مثمرة في كل موسم للحفاظ على حيويتها.
إعلان
إلى جانب ذلك، تبذل جهود حثيثة لإنقاذ أشجار اللبان من مواقع أخرى في ظفار. يقول المشرف على المحمية محمد فرج إسطنبولي "تقوم الحكومة بمشاريع حيوية من بينها شق الطرق مثلا، مما يهدد أماكن توجد فيها أشجار اللبان.. فنحضرها من مواقع الخطر للمحمية لاستزراعها. أنقذنا نحو 600 شجرة حتى الآن".
تسعى "أمواج"، التي انطلقت من سلطنة عمان عام 1983 ووصلت عطورها إلى أفخم المتاجر العالمية، إلى جعل وادي دوكة مركزا عالميا للبان العطري. وتعمل الدار مع بعض أبرز مبتكري العطور في العالم، مثل الفرنسي بيار نيغرين، لتقديم هذا الكنز في أبهى صوره. ويضيف إسطنبولي أن مركزا لتقطير زيت اللبان سينشأ داخل المحمية بهدف "الاستغناء عن التقطير الفرنسي" وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
كما طور القائمون على المحمية مبادرات مبتكرة لدعم أشجار اللبان المهددة بالانقراض. تم تزويد كل شجرة برمز فريد يمكن من خلاله متابعتها باستمرار من قبل فريق من المختصين. وفي مبادرة فريدة من نوعها، أصبح بإمكان أي شخص حول العالم أن يختار شجرة على الموقع الرسمي لوادي دوكة، ويدفع مبلغا سنويا لرعايتها، ليحصل في نهاية الموسم على منتجات من اللبان الذي جمع منها كهدية، في علاقة رمزية تعبر المحيطات وتصل بين الإنسان والشجرة.
0 تعليق