هل فات الأوان لإنقاذ «الفيدرالي»؟ - هرم مصر

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

محمد العريان *

قبل أسابيع قليلة، أثرتُ استغراب الكثيرين حين دعوتُ جيروم باول للاستقالة من منصبه رئيساً لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، وذلك لحماية استقلالية البنك المركزي الأكثر تأثيراً في العالم، لكنه لم يفعل.
ومذاك، اتسعت دائرة الهجمات على المؤسسة، لتبدأ معها شروخ مقلقة في مبدأ راسخ طالما كان جوهرياً لصحة الاقتصاد الأمريكي والعالمي على حد سواء.
في عالمٍ مثالي آخر، كان يمكن لباول أن يُكمل ولايته التي تنتهي في مايو المقبل، بينما تبقى استقلالية الاحتياطي الفيدرالي بمنأى عن الجدل، وتُرسم السياسات النقدية وفق اعتبارات مهنية بحتة. لكن ذلك العالم لم يعد موجوداً في ظل العداء العميق بين الرئيس دونالد ترامب وباول، عداءٌ تراكم منذ تعيينه في الولاية الأولى لترامب، وتفاقم مع الخلافات والاتهامات المتبادلة بوعود منكوثة.
ولم يبقَ هذا الصراع محصوراً بين الرجلين، بل أخذ يتمدد إلى أوصال المؤسسة النقدية كلها، مستقطباً أطرافاً سياسية متعددة، ومفاقماً تراجع ثقة الرأي العام في البنك المركزي ورئيسه إلى أقل من 40%، وفق استطلاع «غالوب» الأخير.
أخطر ما في الأمر أن الإدارة الحالية بدت كأنها تسعى جاهدة للعثور على «مبرر قانوني» لإقالة باول. فالهجمات لم تقتصر على الانتقادات العلنية، بل شملت تسليط الضوء على مشروع تجديد مبنى الفيدرالي الذي تجاوز الميزانية المخصصة له، في عرض تلفزيوني بدا كأنه صُمم خصيصاً للإدانة. وامتدت الاتهامات إلى كفاءة باول وميوله السياسية، ليس فقط من الرئيس، بل أيضاً من وزير الخزانة ومسؤولين كبار آخرين، ورئيسة مجلس النواب.
ولم يتوقف الأمر عند باول وحده، فقد استهدفت الإدارة الأمريكية مؤخراً إحدى زميلاته في المجلس، وهي الحاكمة ليزا كوك، متذرعة باتهامات غير مثبتة تتعلق بالاحتيال في الرهون العقارية. ورغم أن ترامب أعلن إقالتها، في منعطف درامي، ردت كوك بأن ذلك يتجاوز صلاحيات الرئيس القانونية، مؤكدة أنها ستقاضيه وستواصل أداء مهامها. لتبدأ المعركة القضائية، وتبدأ معها تعقيدات جديدة ستضع باول في موقف بالغ الحرج، هل يفتح تحقيقاً داخلياً؟ وهل يسمح لكوك بالعودة إلى مقر المؤسسة في خضم هذه الأزمة وعدم اليقين؟
في الوقت نفسه، بات جلياً بالنسبة للكثيرين أن ما هو على المحك اليوم يتجاوز شخص باول أو كوك. فإذا استُبدلت الحاكمة بشخصية تدين بالولاء السياسي المطلق لترامب، قد يمتلك البيت الأبيض كتلة تصويتية كافية للتأثير في إعادة تعيين رؤساء البنوك الفيدرالية الإقليمية الاثني عشر، وهو ما يهدد بتسييس كامل المنظومة النقدية الأمريكية على نحو غير مسبوق ولا متوقع.
بوصفي من أشد المؤمنين بأهمية استقلالية الاحتياطي الفيدرالي، أجد هذا التطور بالغ الخطورة. والأسوأ أنني أشعر أن هذه الأزمة كان يمكن تجنّبها لو أن باول قدّم استقالته في وقت أبكر، مانحاً ترامب «انتصاراً سياسياً» كان من شأنه أن يخفف حدة المواجهة.
صحيح أن بعض الزملاء يرون أن استقالة باول نفسها كانت ستُضعف مبدأ الاستقلالية وتفتح الباب أمام تعيين سياسي في رأس الهرم النقدي. غير أن هذه المخاوف كانت ستُطرح على أي حال، بحكم اقتراب انتهاء ولايته وتحوله إلى «بطة عرجاء» قبل مايو. ولعل ما يبعث على قدر من الاطمئنان أن قائمة المرشحين لخلافته تضم شخصيات محترمة وذات كفاءة عالية. كما أن المنصب، وإن بدا «متمركزاً حول الرئيس»، يظل بحاجة إلى دعم الأعضاء الآخرين في القرارات الكبرى.
الأهم أن استقالة مبكرة كانت ستتيح لرئيس فيدرالي جديد إطلاق إصلاحات طال انتظارها. من تعزيز المساءلة والرقابة، إلى كبح التفكير الجماعي، مروراً بإصلاح العناصر الرئيسية للإطار النقدي الشامل ذاته، وكلها خطوات ضرورية ليس فقط للحفاظ على مصداقية البنك المركزي وفاعليته، بل أيضاً لضمان نتائج اقتصادية أفضل.
السؤال الآن: هل فات الأوان؟ هل يمكن أن تحقق استقالة باول اليوم ما كان يمكن أن تحققه بالأمس؟ الإجابة صعبة بالتأكيد. فقد حدثت الكثير من الأمور بالفعل، وبعضها لا رجعة فيه. ما أعرفه يقيناً هو أن هذه المسألة ستظل موضع نقاش حاد بين الاقتصاديين والسياسيين، من دون أن ينجح أي طرف في إثبات «السيناريو البديل» المتفق عليه.
* كبير المستشارين الاقتصاديين في «أليانز» ورئيس كلية كوينز في جامعة كامبريدج. (ياهوفاينانس)

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق