03 سبتمبر 2025, 11:24 صباحاً
قد تمرّ على القلب أيام يظن فيها أنه جفّ، لا تهزه ضحكة طفل ولا تدمعه مصيبة قريبة، حتى تبدو الحياة وكأنها تُعرض على شاشة بعيدة. يضحك من حولنا، ونضحك معهم، لكن الضحكة لا تصل إلى الداخل. نبكي أحياناً، لكن بلا وجع حقيقي. هذا الشعور المربك لا يعني أن الإنسان بلا قلب، بل أن قلبه أرهق من فرط ما واجه، فاختار أن يصمت. يُسمّى هذا الانطفاء الداخلي "بالخدر العاطفي"، وهو ليس قسوة ولا بروداً، بل حالة نفسية يختبئ خلفها الكثير من الألم والإرهاق.
ولكي نفهم هذه الظاهرة بصورة أعمق، لا بد أن ننظر إليها من زاوية علم النفس. فالعقل البشري حين يزداد الحمل عليه، يلجأ أحياناً إلى تعطيل الاستجابة العاطفية وكأنه يضغط على زرّ التجميد الداخلي. يحدث ذلك في حالات الاكتئاب والقلق، أو بعد صدمات متكرّرة تجعل الإنسان يفضّل التبلّد على مواجهة الموجة العاطفية المؤلمة. وهنا يظهر الخدر في صورة انفصال عن الذات، أو شعور بالفراغ، أو فقدان المتعة حتى في التفاصيل البسيطة.
وإذا انتقلنا إلى الحياة اليومية، سنجد أن آثاره لا تقف عند حدود الشعور الداخلي، بل تتسرّب إلى علاقاتنا. ففي الحياة الأسرية مثلاً، قد تحتضن الأم طفلها من غير أن يرافقها دفء المشاعر الذي اعتادت عليه، أو يمرّ الأب بمناسبة عائلية كبيرة دون أن يشعر بالفرح الذي يتوقعه من حوله. وفي العلاقات الزوجية، قد يلاحظ أحد الطرفين أن مشاعره تجاه الشريك لم تعد تتفاعل لا غضباً ولا شوقاً، كما لو أن بينهما حاجزاً زجاجياً غير مرئي.
ومن الأسرة إلى المجتمع، يستمرّ المشهد بصور مختلفة. فقد يكون الإنسان حاضراً في مناسبة سعيدة أو حتى موقف محزن، لكنه يشارك الآخرين بالابتسامة أو الكلمات بينما داخله لا شيء يتحرك. كأن الحياة تسير من حوله وهو يراقبها دون أن يكون جزءاً منها.
وإذا وسّعنا العدسة أكثر، سنجد أن بيئة العمل ليست بمعزل عن هذا الأثر. فالمهام التي كانت تمنح شعوراً بالإنجاز تتحول مع الوقت إلى إجراءات روتينية تُنجز بفتور. يكتب الموظف التقارير، يحضر الاجتماعات، يحقق الأهداف، لكنه يخرج في نهاية اليوم وهو يشعر بالفراغ. لا فرح بالنجاح ولا حتى انزعاج من الإخفاق، وكأن العمل مجرد حركة جسدية خاوية من المعنى.
ولا يقف الأمر عند المهام فقط، بل يتعداه إلى العلاقات المهنية. فقد يشارك الفرد في الأحاديث والنقاشات وهو حاضر بجسده فقط، بينما عقله وقلبه في مكان آخر. وفي بعض البيئات المليئة بالتنافس والضغط، يصبح الخدر وسيلة لا شعورية للبقاء؛ فبدلاً من الانهيار أمام ضغط متواصل، يختار العقل أن يطفئ العاطفة مؤقتاً. وهذا الانفصال في العمل لا يقل خطورة عن ظهوره في الأسرة أو المجتمع، لأنه قد يقود إلى فقدان الحافز وفقدان الشعور بالمعنى، وهما من أهم ركائز الصحة النفسية في الحياة المهنية. وهنا لا يكون الأمر مجرد فتور عابر، بل جرس إنذار يدعو الإنسان للالتفات إلى ذاته وإيجاد طرق يستعيد بها توازنه.
وبعد كل هذه الصور، يبقى السؤال الطبيعي.. ما الذي يجعل الإنسان يفقد تواصله مع مشاعره إلى هذا الحد؟ الحقيقة أن الخدر العاطفي لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة تراكمات تثقل النفس. الضغوط اليومية المستمرة، سواء في العمل أو في البيت، قد تضع الجهاز النفسي تحت ضغط هائل، فيلجأ العقل إلى إطفاء المشاعر كوسيلة للبقاء. وفي أحيان أخرى، تأتي الصدمات المفاجئة كالفقد أو الخلافات العميقة، فتترك الإنسان في حالة تجمّد عاطفي يعجز فيها عن الاستجابة لما حوله. كما أن الاكتئاب والقلق يُعدان من أبرز الأسباب، حيث يرافقهما فقدان القدرة على التفاعل مع اللحظات السعيدة أو الحزينة. وحتى الإرهاق الجسدي والنفسي معًا، مثل قلة النوم والإجهاد الطويل، يزيد من احتمالية الانفصال عن المشاعر، فيمضي المرء في يومه بملامح ثابتة وقلب غائب.
ولعل أخطر ما يسببه الخدر العاطفي أنه يسلب الإنسان أهم عناصر جودة الحياة. فالمشاعر هي التي تضفي المعنى على التفاصيل، من لحظة إنجاز في العمل، إلى جلسة عائلية دافئة، أو لقاء مع صديق قديم. وحين يغيب التفاعل العاطفي، يصبح كل ذلك مجرد صور متحركة بلا روح. لهذا يُنظر إلى الاهتمام بجودة الحياة ليس كترف أو شعار، بل كأحد السبل الوقائية والعلاجية للخدر العاطفي، لأنه يذكّر الإنسان بما يمنحه التوازن بين الجهد والراحة، بين الواجب والمتعة، وبين الأداء الخارجي والحياة الداخلية.
ومع ذلك، يبقى من المهم أن ندرك أن الخدر العاطفي لا يعني أن صاحبه شخص ضعيف أو غير طبيعي. بل على العكس، هو رد فعل إنساني مفهوم أمام ضغوط تتجاوز قدرة الإنسان على الاحتمال. إنه بمثابة درع نفسي يحاول أن يحمي صاحبه، حتى وإن بدا للآخرين قسوة أو بروداً.
وربما أجمل ما في الإنسان أن مشاعره، مهما خبت، لا تموت. يكفي أن يلامسنا موقف صادق، أو كلمة حانية، لنكتشف أن تحت هذا الغطاء من الخدر جمرة دفء لم تنطفئ بعد. وهنا نتذكر أن العاطفة ليست رفاهية، بل هي ما يمنح لحياتنا طعمها ومعناها.
يبقى أن نقول، يظل الخدر العاطفي، مهما طال، حالة عابرة وليست مصيراً دائماً. إنه استراحة تتخذها النفس حين تُثقلها الأعباء، لكنه لا يلغي حقيقة أن المشاعر تبقى حيّة في أعماقنا تنتظر اللحظة المناسبة لتعود. العودة إليها ممكنة دائمًا، بالوعي أولاً، وبمدّ اليد لمن نثق بهم، وبالحديث مع مختص إذا لزم الأمر. يكفي أن نؤمن أن قلوبنا لم تنطفئ، بل اختارت أن تحمي نفسها إلى أن يحين الوقت لتضيء من جديد.
0 تعليق