حاوره زياد خداش:
ما زالت كرتونة كتاب الشاعر محمود الجبري الجديد "خنجر في النشيد"، الذي صدر قبل سنة تقريباً، عن دار كل شيء في حيفا، في بيتي برام الله، لم تصل نسخة واحدة لمحمود بسبب الظرف الصعب، أجلس كل يوم والكرتونة أمامي، أخرج نسخة من الكتاب، أتصفحه وأهمس له: أعرف كم أنت مشتاق له، ثم أتذكر أن هذا المشهد يشبه فلسطين تماماً وأهلها، وكأن القدر كتب علينا الفراق والحواجز والمسافات.
كان الشاعر قد أصدر باكورة اعماله في العام 2023، ديوانه الأول "هل تتأخر البداية" عن دار الكلمة بغزة.. محمود من جيل غزة الشاب، الذي لم يرَ من العالم سوى الحروب وقليلٍ من الأمسيات، وبحرٍ كبير.. ماذا تراه يفعل الآن في غزة غير انتظار الأمل بنهاية عصر الجنون؟ وبلقاء كتابه الحبيب.. معه كانت الدردشة التالية:
* ماذا يعني أن يصدر لك كتاب شعر في ذروة هجوم على البشر والحجر في غزة ؟
- يعني أنني ما زلت أبحث عن هويتي وأشرع سؤالها متحدياً وهم الآخر الذي يحاول بكل الطرق أن يكورها في سرابه.
* ثمة مسحة فلسفية في نصوصك.. أهي غزة وطريقتها في رؤية العالم؟ ام هو ذهاب إلى استضافة معارف جديدة للشعر؟
- غزة أورثتنا السؤال يا زياد، وهي بدورها سؤالنا المفتوح على العالم، بها نؤسس الانتباه، ومن منبرها الخجل نطلُّ بكل جرأةٍ على الأشياء، فهذه المسحة مسحتها بشكل رئيسي، وأيضاً إيماني بتشكيل نص أُصغي بهِ لحريتي الكاملة فلسفةً وفكراً وحساً.
* حدثنا عن الكتاب قليلاً.. هل كتبت نصوصه أثناء هذه المجزرة؟ أم هو تجميع لنصوصٍ قبلها؟
- "خنجرٌ في النشيد" هي مجموعتي الثانية التي بدأت كتابتها بداية أيلول الماضي، أي قبل الحرب بشهر تقريباً، وتضم نصوصاً كتبت قبل الحرب ونصوصاً خلالها، وكان لهذه الأخيرة نصيب الأسد في المجموعة.
* جربت العيش في الخيمة.. ما الذي تسمعه وأنت تستعد للنوم.. احكِ لنا عن الأصوات؟
- عندما يخلد الجميع هنا إلى نومهم القلق أبقى جالساً في عراء الليل، أمام الخيمة، أنتظر الكلاب تأتيني، وفي فمها قصائدي الذبيحة لأحملها، وأذهب بها معي إلى الفراش، محاولاً النوم، لكنها تبقى ملك رجفتها، وتبقى تصرخ عالياً، وأنا بدوري أبقى أحرس الصرخةَ من الضياع.. جسدي مدى الأصوات الضائعة يا زياد.
* كاتب غزي لم تره منذ أول أيام المجزرة.. تشتاق له.. من هو؟
- الشاعر نضال الفقعاوي، فلم أر نضالاً منذ بداية الحرب، وأشتاق لهُ، ولتلك الجلسات التي بيننا على ضفة الشِعر والهوى، قبل هذا الموت الكامل.
* احكِ لنضال أشياء لم تحكها له من قبل.
- كبرت قصائدك يا نضال، تلك التي تركتها في عربة الاسكافي ذات انتباهٍ طفل، كبرت حتى أصبحت أشجاراً في مقبرة عيوننا.
وهذا الثمر الحي الذي يسقط منها، ينتظرك عند أول يدي، فلا تتأخر أكثر.
* برأيك ما هو الجنس الأدبي الملائم لكتابة موت غزة او السرد أو الشعر ام المسرح ؟
- ليس هناك جنس أدبي قادر على كتابة موت غزة، فالموت هذه المرة أسرع من النص، أي نص.
* من هو الكاتب العربي أو العالمي الذي ما زلت تحمل كتبه في حقيبتك؟
- عندما نزحت من البيت، لم آخذ معي سوى حقيبة صغيرة، وضعت فيها مجموعة من الكتب وركضت بين الرصاص والقذائف، كان من ضمن هذه الكتب رواية "رجل في الظلام" لكاتبها بول أوستر، ودفتر صغير كنت قد كتبت فيه بخط يدي بعض قصائد قاسم حداد وريلكه.
* مات بول اوستر قبل أشهر وكان مناصراً لحقوق شعبنا.. ماذا تقول وماذا فعلت بك رواياته؟
- أمثال بول أوستر لا يموتون، فهو يتجول دائماً في مخيلاتنا التي وسعته، يشعل بنا شمعة الصدق وسط عالم العتمة.. كان أوستر، وعبر شخصياته، يؤسس فينا رفضاً لكلِّ ظلم.
* أما قاسم الذي من الصعب وصفه بكلمات، فهو صديق الفلسطينيين.. لو فجأة قفز أمامك الآن إلى أين ستأخذه يا محمود؟
آخذه إلى النص، وأثق في حضوره بكل الجهات، حتى وإن كانت جهات موتٍ حتمي، لأنني أُصدِّقُ قاسم كما أصدق هذا الموت.
0 تعليق