قمّة تيانجين: التفكّك المُعلن للنظام الدولي - هرم مصر

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
قمّة تيانجين: التفكّك المُعلن للنظام الدولي - هرم مصر, اليوم الجمعة 12 سبتمبر 2025 10:56 صباحاً

هرم مصر - لم تكن القمة السنوية لمنظمة شنغهاي للتعاون (OCS)، التي انعقدت في مدينة تيانجين شمال الصين، مجرد سلسلة من المراسم البروتوكولية والبيانات التقليدية. فخلف العروض العسكرية، والإعلان عن خط أنابيب «قوة سيبيريا 2»، وإنشاء أدوات مالية وتكنولوجية جديدة، تتجلى ملامح تحوّل صامت لكنه حاسم: دخول العالم مرحلة من التفكك المُعلن، حيث تتقدّم اعتبارات القوة والسيادة والأمن على حساب النزعة الكونية الليبرالية.

هذه القمة لم تؤسس لتحالف مناهض للغرب، لكنها أبرزت ثلاث ديناميكيات كبرى:

- بروز «توافق جديد للجنوب».
- تموضع الهند كقوة محورية.
- صعود الممرات الأوراسية كمحاور استراتيجية جديدة.

1. الديبلوماسية كعرض مسرحي: تيانجين واجهة سياسية
منظمة شنغهاي ليست تحالفاً عسكرياً ولا منظمة اقتصادية متكاملة، بل منصة سياسية ورمزية بالدرجة الأولى، وقد جسّدت قمة تيانجين ذلك بوضوح.

فاعتماد الروسية والصينية لغتين للعمل، وتوقيع مذكرة تفاهم حول خط أنابيب «قوة سيبيريا 2»، والإعلان عن منصات مالية ومناخية وتكنولوجية جديدة، كلها خطوات رمزية موجهة إلى أربع فئات رئيسية:

- الرأي العام في الصين وروسيا.
- مجتمعات آسيا الوسطى الباحثة عن فك العزلة وضمان الأمن.
- دول الجنوب العالمي التي يستهويها وعد بنظام أكثر شمولية.
- وأخيراً الغرب المدعو لإلى معاينة أفول هيمنته.

كانت قمة تيانجين بمثابة عرض مسرحي بارع، أكّد أن بكين وموسكو تتقنان فن "التواصل الجيوسياسي" وتحويل مؤتمر إقليمي إلى منصة عالمية.

2. الغاز كسلاح نفوذ: أثر «قوة سيبيريا 2»
أبرز إعلان في القمة كان مذكرة التفاهم بشأن بناء خط أنابيب الغاز «قوة سيبيريا 2»، القادر على نقل 50 مليار متر مكعّب سنوياً عبر منغوليا بحلول عام 2030. أُضيف إلى ذلك توسيع خط الأنابيب الأول وزيادة الإمدادات من سخالين.

الأسعار والجدول الزمني لم تُحسم بعد، لكن جوهر المسألة أن الغاز تحوّل إلى أداة سياسية:

- روسيا تطرح نفسها مزوّداً محورياً للصين، لتؤكد أن لديها بدائل من السوق الأوروبية.
- الصين تؤمّن إمداداتها وتقلّص اعتمادها على طرق بحرية هشّة.
- بكين ترسم ملامح بنية طاقة عالمية جديدة تتجاوز أوروبا.

3. لا تحالف مناهضاً للغرب ولا قطيعة مباشرة
خلافاً لبعض القراءات المتسرعة، لم تؤسس قمة تيانجين كتلة مناهضة للغرب. فبكين وموسكو تدركان أن مواجهة مباشرة ستكون مكلفة وغير مجدية. استراتيجيتهما أكثر دقة: تحويل مركز الثقل المؤسسي العالمي تدريجاً.

خطابهما يركز على ثلاث أفكار:

1. الاعتراف بتنوّع النظم السياسية بديلاً من النموذج الليبرالي الغربي.
2. إصلاح المؤسسات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، لتعكس هذا التعدد.
3. تكريس السيادة كقيمة عليا على حساب مبدأ التدخل باسم حقوق الإنسان.

وقد عززت حرب غزة هذه الرواية، إذ أصبح اتهام الغرب بازدواجية المعايير حجة أساسية تلقى صدى واسعاً في العالم غير الغربي.

4. استحواذ ناعم بـ«القوة الذكية»
طموح الصين لا يقتصر على تأمين الإمدادات والحدود، بل يتعداه إلى صناعة القواعد. فهي تستثمر منذ سنوات في ما يشبه «استحواذاً بالقوة الذكية» عبر:

- تأسيس بنوك تنمية جديدة.
- منصات مناخية وطاقوية.
- مراكز تعاون في الذكاء الاصطناعي.

- فتح نظام الملاحة «بايدو» كبديل من الـGPS لدول آسيا الوسطى.

استراتيجيتها ليست هدم النظام القائم، بل إنشاء نظام موازٍ وفعّال يجذب الآخرين ويُضعف تدريجاً مركزية المؤسسات الغربية.

5. الهند: المحور الذي لا غنى عنه
التحول الأبرز في تيانجين قد يكون الدور الذي اضطلعت به الهند.

فديبلوماسية نيودلهي قائمة على تعدد الاصطفافات: تعاون متنامٍ مع الولايات المتحدة، علاقات تاريخية مع موسكو، وحوار براغماتي مع بكين. هذه القدرة على التحدث مع الجميع من دون الانحياز الكامل لأي طرف تجعلها قوة محورية.

- بالنسبة إلى روسيا، الهند شريك حيوي لتفادي الارتهان الكلي للصين.
- بالنسبة إلى بكين، هي منافس استراتيجي وشريك اقتصادي لا غنى عنه.
- بالنسبة إلى اشنطن، الهند ركيزة أساسية في سياسة احتواء الصين، لكن باستقلالية لا يمكن المساس بها.

المصافحة الصينية–الهندية في تيانجين جسّدت هذه الازدواجية: خصومة بنيوية، تقاربات ظرفية.

6. آسيا الوسطى: الساحة المتنازع عليها
في نظر دول آسيا الوسطى، منظمة شنغهاي ليست فكرة مجردة، بل حل عملي لمشاكل النقل وفك العزلة والأمن الغذائي والمناخي.

- كازاخستان (أكبر منتج لليورانيوم) وأوزبكستان تلعبان على التوازن بين موسكو وبكين.
- قرغيزستان وطاجيكستان تعتمدان بنسبة كبيرة على التمويل الصيني.
- ورغم الحذر الشعبي تجاه الصين، فإن نفوذها الاقتصادي يتصاعد بثبات.

الممرات الحديدية (الصين–قرغيزستان–أوزبكستان، والممر الأوسط العابر لبحر قزوين) أصبحت شرايين أساسية لـ«اقتصاد الأمن»، حيث تحل البنى التحتية والمعايير الجمركية الرقمية والسيادة التكنولوجية محل التحالفات العسكرية القديمة.

7. أثر الفراغ الاستراتيجي الأميركي
تصاعد دور المنظمة يعكس أيضاً تراجع الحضور الأميركي. تقليص موازنة الـUSAID، غياب واشنطن عن ملفات استراتيجية، وعجزها عن صوغ رؤية خارج إطار «احتواء الصين» تركا فراغاً ملحوظاً.

 سارعت الصين لملئه عبر تمويل الصحة والتعليم والتغذية في آسيا وجنوب العالم. ورغم استمرار صورة «فخ الديون» كعائق، باتت بكين تُقدَّم كجهة تمويل بديلة وأكثر ثباتاً مقارنة بالغرب.

8. نحو «اقتصاد الأمن»
التحول الجوهري في منظمة شنغهاي هو الانتقال من منطق أمني–عسكري إلى أمن اقتصادي وتكنولوجي، يشمل:

- أمن الإمدادات الطاقوية.
- أمن الممرات اللوجستية.
- أمن المعايير الرقمية والتكنولوجية.

بهذا، باتت السيادة تُقاس بالأنابيب والكابلات والأقمار الاصطناعية بقدر ما تُقاس بالجيوش.

 

من قمة تيانجين (وكالات)

من قمة تيانجين (وكالات)

 

9. تفكك لا رجعة فيه
الخلاصة أن قمّة تيانجين لم تُنتج تحالفاً ضد الغرب، بل رسخت تفككاً لا رجعة فيه في النظام الدولي:

- الصين وروسيا متقاربتان لكن غير متحالفتين.
- الهند قوة محورية.
- آسيا الوسطى مختبر لإعادة تشكيل التوازنات.
- المنصات مثل بريكس ومنظمة شنغهاي أدوات إظهار حضور أكثر منها تحالفات مغلقة.

اللغة المشتركة لم تعد «الحقوق العالمية» بل «السيادة والأمن».


10. دروس للغرب والمستثمرين
تُستخلص من قمة تيانجين ثلاث رسائل رئيسية:

1. التمويل والتكنولوجيا والمعايير: الانقسام المعياري قائم بالفعل (GPS مقابل بايدو، منظمة التجارة العالمية مقابل منظمة شنغهاي).

2. اللوجستيات والممرات: الممرات الجديدة ستحدد ملامح التجارة لعقود.

3. الهند المحورية: تعدد اصطفافاتها يمثل عامل عدم يقين، لكنه أيضاً فرصة كبرى في التحويلات الصناعية والتكنولوجية.

نحو نظام عالمي متشظٍ
قمة تيانجين لم تغيّر العالم، لكنها جسّدته كما هو آخذ في التشكل: عالم متفرّق، ما بعد هيمني. عالم تتحول فيه الكتل الصلبة إلى منصات مرنة، حيث تتقدم السيادة والأمن الاقتصادي على القيم الكونية. عالم تنقل فيه الصين مركز الثقل المؤسسي، وتتمسك روسيا بدورها كقوة محورية، وتوازن الهند بين الجميع، وتصبح آسيا الوسطى مختبراً للتعددية القطبية.

النظام العالمي لم ينقلب، بل تفتت. والتفكك بات السيناريو الأساسي.

** أستاذ في جامعة باريس دوفين

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق