عندما نرى نحن البشر تعابير وجه، مثل أفواه مفتوحة ومسترخية، فإن وجوهنا تحاكيها تلقائيًا في غضون أجزاء من الثانية. يُسمى هذا "تقليد الوجه السريع"، وهو رد فعل لا إرادي يبدأ دون أن نفكر فيه.
يساعد هذا التقليد، البشر وكثيرا من الحيوانات على مزامنة الحركات أثناء اللعب. ومع ذلك، ظل دور تعابير الوجه في إدارة اللقاءات المرحة بين الحيوانات البحرية لغزًا حتى الآن.
لكن الدلافين قارورية الأنف أو ذات الأنف الزجاجي أحدثت ضجة أخيرًا، إذ اكتشف العلماء أنها "تبتسم" أثناء اللعب، ووثقوا في دراستهم وجود تعبيرات وجه، مفتوحة الفم تشبه تلك التي تستخدمها الحيوانات الأخرى، ما قد يقدم رؤى جديدة عن تطور الثدييات، بما فيها البشر.
ووفقًا للدراسة الحديثة التي نُشرت في مجلة "آي ساينس"، فإن هذا التعبير الذي يُشبه الابتسام لدى البشر تستخدمه للتواصل مع بعضها بعضا أثناء اللعب، ويُلاحظ غالبًا أثناء تفاعلاتها المرحة مع الدلافين الأخرى، خاصةً عندما يكون المُرسِل ضمن مجال رؤية المُستقبِل.

من التواصل السمعي إلى البصري
الدلافين التي تعيش في المياه المعتدلة والاستوائية في العالم، بما فيها السواحل الأفريقية، توسع شبكتها الاجتماعية بعدما تكون الأم رفيقة اللعب الأولى، وتلعب مع الدلافين الأخرى في الأسابيع الأولى من حياتها.
إعلان
وتعتمد الدلافين بشكل كبير على الإشارات البصرية للتنقل في عوالمها الاجتماعية، لكن حركات عضلات وجهها المحدودة تجعل دراسة تعابيرها أمرًا صعبًا للغاية.
ومع ذلك، فإن السلوك الاجتماعي المرح للدلافين وطريقة توجيهها للإشارات إلى المجال البصري إلى بعضها بعضا تُشبه ما تفعله الثدييات الأخرى، وهذا يشير إلى أنها قد تستخدم تعابير الوجه لنقل المعلومات، ما يجعلها نموذجًا مثاليًا لدراسة كيفية تواصل الحيوانات باللعب.
وإلى جانب ذلك، تتواصل الدلافين عبر أحد أكثر الأنظمة الصوتية تعقيدًا في عالم الحيوان، حيث تستخدم صفارات عالية النبرة للتعرف إلى بعضها بعضا والتفاعل اجتماعيًا.
ربما تطوَّر هذا لأنها تعيش في مياه عكرة حيث تكون الرؤية منخفضة، مما يُجبرها على الاعتماد على الصوت، ومع ذلك، يُمكن للصوت أيضًا أن يُعرّضها للحيوانات المفترسة أو المتنصتين.
عندما تكون الدلافين في مياه صافية أو عندما تكون قريبة من بعضها بعضا، فإنها تستطيع التحول إلى التواصل البصري. وقد افترض الباحثون أن هذا سيجعل تعابير الوجه أساسية للتبادلات السريعة بين الطرفين.
عندما تلعب الدلافين معًا، يساعدها مزيج من الصفير والإشارات البصرية على التعاون وتحقيق الأهداف، وتُعد هذه الإستراتيجية مفيدة، خاصة أثناء اللعب الاجتماعي عندما تكون أقل حذرًا من الحيوانات المفترسة.
وقد أظهرت أبحاث سابقة أن الدلافين، عند تواصلها مع أنواع أخرى، تُبدي اهتمامًا بالغًا بمعرفة ما إذا كان جمهورها منتبهًا أم لا، ويشير هذا إلى أنها تدرك تركيز مُتلقيها، وتُعدّل سلوكها وفقًا لذلك.
وعلى الرغم من أن الدراسات السابقة تناولت التواصل السمعي بين الدلافين، إلا أن القليل منها ركز على أساليب أخرى للتواصل، مثل لغة الجسد.
ما تكشفه "ابتسامات" الدلافين
وتسلِّط الدراسة الجديدة الضوء على قدرات التواصل المتطورة التي تتجاوز مجرد الإشارات الصوتية لدى الدلافين، وتلقي ضوءًا جديدًا على كيفية استخدامها لإشارات وجهية دقيقة أثناء اللعب الاجتماعي.
إعلان
في حديقتين للحياة البرية (زومارين روما في إيطاليا وبلانيت سوفاج في فرنسا)، صوَّر الباحثون 22 دولفينًا من فصيلة قارورية الأنف لمدة 80 ساعة على مدار 60 يومًا.
خلال هذه الفترة، خاضت الدلافين 837 جلسة لعب حر، أدّت فيها حركات بهلوانية بمفردها، ولعبت أيضًا مع البشر، ومع أنواع أخرى من الدلافين، فهي حيوانات اجتماعية للغاية، وغالبًا ما يمكن رؤيتها في مجموعات تصل إلى 15 دلفينا.
وعند تحليل تسجيلات هذه الثدييات البحرية الاجتماعية فائقة الذكاء، أحصى الباحثون ما مجموعه 1288 حالة فم مفتوح أو "ابتسامة" خلال جلسات اللعب.
وفي حين أن الغالبية العظمى من هذه "الابتسامات" حدثت أثناء لعب الدلافين مع بعضها بعضا، إلا أنها لا تميل إلى إصدارها في مواقف أخرى، فالقليل منها حدث أيضًا أثناء اللعب مع البشر أو بمفردها.
كما كانت هذه الثدييات المائية أكثر ميلاً لاستخدام تعابير الوجه المفتوحة (ما يقرب من 90% منها) عندما يتمكن رفاقها من رؤية وجوهها.
فوجئ الباحثون باكتشاف، أن الدلافين لا تستخدم فقط تعابير الفم المفتوح أثناء اللعب، بل إنها قادرة أيضًا على التقليد السريع لتعابير وجوه الآخرين. كان هذا إحدى أبرز نتائج هذه الدراسة، إذ لم يكن أحد يعلم بوجود هذا التقليد لدى الدلافين.
وتقول إليزابيتا بالاجي، الباحثة المشاركة في الدراسة وخبيرة الرئيسيات المعرفية بجامعة بيزا في إيطاليا، في بيان: "تظهر إشارات الفم المفتوح والتقليد السريع بشكل متكرر عبر التصنيف الحيوي للثدييات، مما يشير إلى أن التواصل البصري لعب دورًا حاسمًا في تشكيل التفاعلات الاجتماعية المعقدة، ليس فقط لدى الدلافين، ولكن لدى العديد من الأنواع على مر الزمن".
كما بحثت الدراسة أيضًا في مسألة ما إذا كانت ابتسامات الدلافين المفتوحة تُعدّ استعدادًا للعضّ وليست إشارة. ومع ذلك، عندما كانت تبتسم لرفاقها، كانت تتلقى "ابتسامة" مماثلة في أكثر من ثلث الحالات (33.16%).
إعلان
وفي 66.84% من الحالات الأخرى، لم يُبادِل المُستقبِل الابتسامة، ولم يعضّ الدلفين المُبادر رفيقه، ويشير هذا إلى أن هذا السلوك ربما يكون قد تطوّر من إستراتيجية منع العض إلى شكل من أشكال التواصل، حيث تحوّلت الوظيفة الأصلية إلى إشارة اجتماعية.

ما لم تقله الدراسة
على الرغم من أن الباحثين لاحظوا أن الدلافين تُصدر تعبيرًا بفتح الفم أثناء اللعب، إلا أنه ليس من الواضح ما يعنيه هذا السلوك، ولا سبب "الابتسامة"، كما لا يعلم الباحثون ما إذا كانت "الابتسامة" تعني للدلافين الشيء نفسه الذي تعنيه للبشر.
وقد لوحظت كائنات أخرى، مثل الذئاب والقطط وإنسان الغاب، تُصدر تعبيرًا مشابهًا بفتح الفم أثناء اللعب، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنها تشعر أو تُعبّر عن حالة مزاجية معينة.
لم يُحلل الباحثون أيضًا ما إذا كانت الدلافين تُصدر أصواتًا أثناء ابتسامها، لذا يُحتمل أنها كانت ببساطة تفتح أفواهها لإصدار أصوات.
ركزت الدراسة حصريًا على رصد التواصل البصري للدلافين في بيئات مُتحكّم بها، ما أتاح للباحثين فهم تفاعلاتها الدقيقة، لذا يبقى السؤال مطروحًا، هل الدلافين البرية (الدلافين الموجودة في بيئتها الطبيعية في المحيطات والأنهار) "تبتسم" أيضًا لبعضها بعضا، وإذا كان الأمر كذلك، ففي أي سياقات.
على عكس الدلافين التي خضعت للدراسة، تتمتع الدلافين الحرة بمساحات أكبر بكثير للتفاعل ومطاردة بعضها بعضا أثناء اللعب، وكثيرًا ما توجد في مياه ذات رؤية محدودة. في هذه الظروف، قد لا تكون الإشارات البصرية بنفس فعالية الإشارات الصوتية.
يمكن إجراء أبحاث مستقبلية على الدلافين البرية، ويتطلب هذا استخدام الذكاء الاصطناعي، ومراقبة طريقة نظر الدلافين إلى بعضها بعضا (تتبع حركة العين)، وتسجيلات الموجات فوق الصوتية.
إعلان
من شأن هذا أن يُحسّن فهم العلماء للتواصل متعدد الوسائط والاختلافات بين الدلافين التي تلعب مع بعضها بعضا، وتلك التي تلعب مع الأنواع الأخرى.
0 تعليق