كامل كيلاني وحديقة أبي العلاء - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لقد هضم الرائد العربي لأدب الأطفال كامل كيلاني (1897 – 10 أكتوبر/تشرين الأول 1959) التراث هضما جيدا، وكان واحدا من المتمكنين من أوابد اللغة العربية محيطا بشواردها وشواهدها وليس دون ذلك في الإنجليزية.

وقد عشت معه -قبل أكثر من ربع قرن وأنا أعد رسالة الدكتوراه- 5 سنوات كاملة، على مكتبه الخاص، وبيدي مفاتيح مكتبته بشارع حسن الأكبر بجوار قصر عابدين، بقلب القاهرة، وقد تكرم نجله الأكبر، الأستاذ الكبير رشاد كامل كيلاني، الخبير بمجمع اللغة العربية، فمنحني نسخة من مفاتيح "مؤسسة الكيلاني للطبع والنشر"، بل وندب لخدمتي الخاصة عم ضرغام، ولتلك الأيام حديث آخر، يحمل من عبق الذكريات ما يحمل، ربما أعود إليه فيما بعد.

لكن الذي أود أن أشير إليه الآن، هو ثقافة كامل كيلاني الرفيعة، التي جعلت من ندوته دارة يؤمها الأعلام الكبار، من أمثال الشيخ البشير الإبراهيمي، والقائد العربي عبد الله التل، والوزير السعودي محمد سرور الصبان، والأديب الكبير صادق عنبر، والزعيم السوري الدكتور عبد الرحمن شهبندر، والزعيم الفلسطيني أحمد حلمي باشا، والمستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس، وعميد الخطاطين العرب الشاعر سيد إبراهيم، والمؤرخ أنور الجندي، وغيرهم من سراة وقادة الفكر والعلم والتجديد والإصلاح.

وكانت مكنة كامل كيلاني من اللغة العربية على وجه الخصوص، تجعل الجميع يقيم له ألف حساب، من أمثال العقاد وطه حسين ومن وراءهما، وكان معروفا عن كامل كيلاني ظرفه البالغ السخرية، وبادرته الذكية المباغتة، حتى إن العقاد -الذي كان لا يفوّت لأحد فائتة إلا أناله أضعافها-  كان كثيرا ما يفوّت لكامل كيلاني بعض هذه الطرائف اللاذعة التي كان معروفا بها.

من تلك الطرائف أن دسوقي باشا أباظة كان قد دعا -كعادته- أعلام الأدباء والشعراء والكتاب إلى "عزومة أباظية" فاخرة، وخرج الجميع من ذلك الغداء الثقيل، وخطاهم ورؤوسهم أشد منهم ثقلا.

إعلان

فقال كامل كيلاني بالعامية مخاطبا عباس العقاد: "والله يا عبس.. الواحد بعد هذه الأكلة.. هيقع من طوله"، وكان كامل كيلاني قصيرا بالنسبة للعقاد الفارع الطول.

فقال العقاد "هو أنت يا كامل عندك طول أصلا؟"

فباغته الكيلاني: "يعني هو أنت اللي عندك عرض؟" في لدغة كيلانية، كادت تخرج العقاد عن وقاره.

فقال: "طيب يا كامل، محسوبالك وموش هتعدي".

وقد سبق كامل كيلاني إلى دراسة الأدب الأندلسي، وترجمه عن (دوزي)، كما سبق إلى دراسة (أبي العلاء المعري) في 8 كتب هي:

"رسالة الغفران" في 4 أجزاء، وقد أصدر الجزء الأول منها عام 1923، أي أنه لم يكن قد تجاوز عمره 25 عاما. "رسالة الغفران" نسخة مترجمة إلى الإنجليزية بالاشتراك مع المستشرق الإنجليزي (براكنبري). "رسالة الهناء" النص الكامل مصحوبا بدراسة وافية. "حديقة أبي العلاء" في جزئين. "على هامش الغفران" مشروحا شرحا كاملا. "قصة الحيوان". "أعلام الغفران". "المعجم العلائي".

وكان كيلاني يقول عن أبي العلاء "لقد كان أبو العلاء منذ نشأتنا الأدبية صديقا، بل أستاذا، لا نريم مجلسه، ولا نمل حديثه، فما نزال نبدي في روائعه ونعيد، حتى لقد أفقدت تلك الروائع علينا كراهية الحديث المعاد" حيث كان يرى أن أبا العلاء "قد تم له المراد، فبلغ من غايته ما أراد"، و"هو رجل يتفجر علما، مفعم بالخيال البارع والأسلوب الساخر والدعابة القاسية والتهكم اللاذع والسخط المرير"، وكان يقول "وما مهمتي سوى أن أجلو الأدب العلائي في عيده الألفي".

بعض كتب كامل كيلاني لقصص الأطفال
بعض كتب كامل كيلاني لقصص الأطفال (الجزيرة)

وتكمن مهارة كامل كيلاني في دراسته لأبي العلاء، في تمكنه من فهم النص، والأخذ بناصيته، وإخراجه في صورة ملائمة لروح عصرنا، مع الاحتفاظ بجمال وفكر وعمق ورأي ورؤية أبي العلاء، وتلك معادلة شديدة الصعوبة، كما قال كامل كيلاني في مقدمة "على هامش الغفران": "وقد أضفنا بما ترجمناه وقبسناه وشرحناه إلى ما يحتويه المنجم العلائي من حر ذهبه الأصفر، قليلا من النحاس الأحمر، ليصبح كالعملة الذهبية الجديدة، أقرب تداولا، وأدنى تناولا، وأيسر جدوى".

ومن كتبه التي أعدها عن المعري ولم تطبع "رسالة الديوان".

وعندما تقرأ ما كتبه العقاد وطه حسين وأحمد تيمور وبنت الشاطئ، وغيرهم عن أبي العلاء -مع إجلالنا لذلك كله- تجد أن كامل كيلاني قد تفرد عنهم جميعا، لأن الجميع قد دخلوا إلى أسوار أبي العلاء، وتحدثوا من داخل سجنه، أما كامل كيلاني فتكمن عبقريته في أنه تسلل إلى عبقرية أبي العلاء وخرج به معه إلى أصعب ميادين الكتابة، وهي الكتابة للأطفال، التي كانت فنا جديدا يكاد يتخلق في ذلك الوقت.

فأتحفنا "بحديقة أبي العلاء" التي أمتعت الطفل وأسعدته، ووصلت أمسه بغده، وفكت أمامه أعقد شفرة لأعقد أديب عرفه أدبنا العربي العريض: (أبي العلاء المعري)، رهين المحبسين، وكم كان كامل كيلاني صادقا ونافذا في وصفه لنفسه:

أنفع الناس وحسبي.. أنني أحيا لأنفعْ

أنفع الناس ومالي.. غير نفع الناس مطمعْ

ومن ذلك النفع البالغ، استباقه الواعي بالرسالة في تقسيم مجموعات أدب أبي العلاء للأطفال "إلى عدة مستويات، يقرؤها الطفل على مراحل مرسومة، كل مرحلة تناسب سنا معينة رفعا للحرج، وتمشيا مع سنة التطور، وانتقالا بالأبناء من درج إلى درج".

إعلان

وكم كان ذلك الرجل رائدا عبر مشواره التثقيفي المعرفي اللغوي اليقظ، لبناء ثقافة متكاملة من الحرف واللون واللسان، وتأسيس قاموس لغوي خاص بالطفل، قبل أن يعرف الباحثون والأدباء ذلك المسمى بنصف قرن من الزمان على الأقل.

فكان كما قال فيه أمير الشعراء أحمد شوقي:

يا كامل الفضل قد أنشأت مكتبة

يسير في هديها شيب وشبان

 

جمال طبعك حلّاها وزيّنها

فأصبحتْ بجمال الطبع تزدان

بعض كتب كامل كيلاني لقصص الأطفال
بعض كتب كامل كيلاني لقصص الأطفال (الجزيرة)

كما كان مثلما ناجاه الشاعر الكبير محمد التهامي:

ملأ الدنيا كفاحا

ثم أغفى واستراحا

هو في دنياه فوق الْـــ

ـــكل قد مد الجناحا

ومضى يعبر للمجد

سماوات فساحا

وغدا، حين نرود

الأفق أنظارا صحاحا

سنراه في ذرى المجد

على الأفلاك لاحا

ونرى في كامل نورا

نرى فيه الصباحا

علَّم الطفل لترقى

أمة تبغي الفلاحا

يسَّر الفصحى فصارت

في فم الطفل صياحا.

هذا إلى جانب قصصه الثلاثمائة التي أبدعها، وكتبه الأربعين التي أنتجها، وأشعاره وتراجمه التي تقيم منه أديبا نابغا قائما برأسه، واقفا على سن قلمه.

رحمة الله تعالى على كامل كيلاني، الرائد العربي الكبير لأدب الأطفال المعاصر، الرجل الواعي بدوره، على حد تعبير الشيخ المجاهد البشير الإبراهيمي "إنني أشهد الله، وأشهد أمام خلقه، بأن الرجل الذي انتهت إليه حكمة التربية عن طريق كتب التعليم، هو الأستاذ كامل كيلاني وستشهد بهذا النهضة العربية، يوم يمد مدها، ويجد جدها".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق