ما تعلمته خلال عملي من البروفيسور سعد الصويان في علم اَلْأَنْثْرُوبُولُوجِيَا - هرم مصر

عكاظ 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
في كل مسيرة مهنية هناك محطات فارقة، أشخاص وتجارب تشكل وعي الإنسان، وتعيد صياغة علاقته مع المعرفة، والهوية، والتاريخ. واحدة من هذه المحطات الفريدة في حياتي كانت عملي المباشر مع البروفيسور سعد الصويان في تأسيس وحدة الذاكرة السعودية بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. كانت تجربة جمعت بين العمل التقني والتوثيقي من جهة، والتعلم العميق من مفكر سعودي فذ من جهة أخرى.

اختيار لا أنساه: حين وضع ثقته بي

أفتخر كثيرًا بأنني، نايف آل نمرة، الاسم الذي اختاره البروفيسور سعد الصويان بترشيح كريم من صاحبة السمو الملكي الأميرة مها بنت محمد الفيصل «نائب الأمين العام آنذاك والأمين العام للمركز حالياً» وسعادة الدكتور عبدالله المنيف المشرف العام على المكتبات والمعلومات للمركز آنذاك للعمل معه لإدارة هذا المشروع الوطني الطموح.

لم يكن اختياري مجرّد ترشيح وظيفي، بل كان تجربة اختبار حقيقية لقدرتي على تحمّل المسؤولية، والصبر على الضغوط، والالتزام بمعايير علمية دقيقة بعد أن وضع عدة شروط للعمل معه، أذكر منها أن يكون شاباً نشيطاً وباحثاً لا يقل عن درجة الماجستير، وأن يكون شاعرًا، وأيضاً أن يكون بدوي الأصل لمعرفة اللهجات والعادات والتقاليد، وكل منها لها معانٍ عميقة بالنسبة له أدركت عمقها لاحقًا.

فمنذ اليوم الأول، شعرت أنني أمام تحدٍ حقيقي. التحدي لم يكن فقط في حجم العمل، بل في حجم الثقة التي منحني إياها هذا الرجل الذي لا يرضى بأقل من الإتقان. كانت التجربة غنية، وشاقة، وملهمة في آنٍ معًا. تحملت ضغوطًا متراكمة، سواء على مستوى الأداء أو التوثيق أو التفاعل مع مادة حساسة كالذاكرة الشفهية. ومع كل مرحلة، كنت أشعر أنني لا أقدم عملاً إداريًا أو تقنيًا فحسب، بل أشارك في كتابة جزء من التاريخ الثقافي الوطني.

البروفيسور سعد الصويان: عقلية أنثروبولوجية فريدة تجاوزت محيطها

البروفيسور سعد الصويان ليس مجرد باحث في التراث أو الأنثروبولوجيا، بل هو عقل ناقد، يمتلك رؤية حادة تجاه التاريخ الشفهي، ويتعامل معه كمنجم معرفي لا يقل أهمية عن الوثائق المكتوبة.

ولعل من أصدق الشهادات على مكانته الثقافية والعلمية فوزه المستحق بجائزة شخصية العام الثقافية ضمن مبادرة الجوائز الثقافية الوطنية في دورتها الرابعة لعام 1446هـ/2024م، تقديراً لإسهاماته البحثية في توثيق تراث شبه الجزيرة العربية، وهي جائزة تُمنح لقامات أثرت المشهد الثقافي السعودي بشكل نوعي. جاء هذا التكريم تتويجًا لمسيرة حافلة بالبحث الميداني، والتأليف، والجهود المتواصلة لحفظ الذاكرة الجمعية السعودية. وقد زادني هذا التقدير احترامًا لقيمة ما كنا نعمل عليه معه، وإدراكًا أعمق لجدية المشروع الذي كنا جزءًا من، وأيضاً جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2014 عن كتابه «ملحمة التطور البشري»، وجائزة أمين مدني للبحث في تاريخ الجزيرة العربية عام 2017 بالمناصفةً.

التسجيلات الشفهية: ما بين الصوت والذاكرة

كنا نعمل على جمع التسجيلات الشفهية، وتفريغها، وتحويلها إلى صيغ رقمية (MP3)، لتكون جزءًا من أرشيف حيّ لذاكرة الوطن. بدا الأمر في البداية معه كعمل تقني بحت: مقابلات، تسجيلات، تفريغ، وتنسيق. لكن ما لبث أن تحول هذا العمل إلى رحلة اكتشاف ثقافي واجتماعي، بفضل إشراف وتوجيه الدكتور سعد الصويان.

كان يحثني دومًا على الاستماع العميق، لا مجرد التفريغ الحرفي. أن نفهم السياق، النغمة، الدلالة الثقافية، ما وراء الكلمات. كان يردد: «الرواية الشفهية ليست نصًا فقط، بل مشهد اجتماعي، ونفسٌ ثقافي، ولا يمكن تفريغها دون وعي بذلك».

من التفريغ إلى الفهم: التعلم من الحكايات

خلال تفريغ المقابلات، وجدت نفسي أمام شخصيات تنتمي إلى عوالم متعددة داخل الوطن الواحد: بدو، حضر، زراع، تجار، شيوخ... كلٌ يروي ذاكرته، رؤيته، تأريخه الخاص. بدأت أتعامل مع كل مقابلة كقطعة فسيفساء في لوحة وطنية كبيرة.

تعلمت منه أن:

• كل قصة تستحق أن تُروى، حتى تلك التي تبدو بسيطة.

• الرواة ليسوا «مصادر»، بل شركاء في صنع التاريخ.

• علينا أن نتعامل مع اللهجة، والمفردات، والعادات داخل النص، لا أن نقوم بتهذيبها أو تسييسها.

• تحويل الصوت إلى نص لا يعني اختزال التجربة، بل يتطلب حسًا لغويًا وثقافيًا عاليًا لفهم النبرة والدلالة.

التقنية في خدمة الهوية

من المهام التي كنت مسؤولًا عنها أيضًا: تحويل التسجيلات إلى صيغة MP3، وفهرستها بطريقة تسهل أرشفتها وإتاحتها للباحثين مستقبلاً. ورغم أن هذا العمل بدا تقنيًا، إلا أنه حمل بعدًا رمزيًا عميقًا.

فكل ملف MP3 كنا ننتجه، لم يكن مجرد «صوت»، بل ذاكرة محفوظة من الضياع. وكل عملية تسمية وتنظيم للأرشيف كانت بالنسبة للدكتور الصويان خطوة نحو بناء هوية معرفية للوطن. علمنا أن التقنية ليست بديلاً عن الفكر، لكنها أداة عظيمة إذا ما وُظفت لخدمة مشروع وطني حقيقي.

التواضع العلمي والصرامة البحثية

من السمات التي أثّرت بي بعمق في شخصية البروفيسور سعد الصويان، هي الجمع بين التواضع العلمي والصرامة البحثية. لم يكن يقبل بتقديم عمل ناقص، أو تدوين معلومة غير مدققة، لكنه في الوقت ذاته كان يشجعنا على المبادرة والتجريب وكانت جملته الشهيرة لي «شمر يديك يا بن نمره».

كان يراجع النصوص بنفسه، ويطرح الأسئلة الدقيقة، دون أن يفرض وصايته الفكرية، بل كان يسعى إلى فتح الأفق لاكتشاف أبعاد جديدة في النصوص والروايات.

ما بقي معي بعد التجربة

انتهى المشروع، لكن ما تعلمته بقي حيًا في داخلي:

• أهمية الإصغاء للتاريخ، لا قراءته فقط.

• أن الرواية الشفهية ليست «بديلة» عن التاريخ الرسمي، بل مكمّلة ومصحّحة له أحيانًا.

• أن الُهوية لا تُصنع من فوق، بل تُبنى من قصص المجتمع المحلي.

• أن التوثيق مسؤولية، تتطلب النزاهة والدقة والاحترام.

• أن الثقة التي تُمنح لك من شخصية بحجم الدكتور الصويان ليست مجاملة، بل اختبارًا حقيقيًا لمسارك المهني والفكري.

خاتمة

العمل مع البروفيسور سعد الصويان لم يكن مجرد تجربة مهنية، بل كان تكوينًا فكريًا وإنسانيًا تعلمت من خلاله كيف أُصغي، وأوثّق، وأفهم، وأسأل، وأسجّل، وأبحث بالميدان، لا من أجل الأرشفة فقط، بل من أجل الحفاظ على ذاكرة وطن بأكمله.

وكل مرة أفتح فيها أحد الملفات التي عملنا عليها، أسمع أكثر من صوت: صوت الراوي، وصوت التاريخ، وصوت الدكتور الصويان، وصوت داخلي آخر يقول: لقد اجتزت التحدي يا نايف، وكنت على قدر الثقة.

وفي الختام، هذا أقل واجب ممكن أن أقدمه لشخصية تستحق الشكر والثناء، ولا يسعني إلا أن أرفع أكفّ الدعاء بأن يمنّ الله على أستاذنا الجليل البروفيسور سعد الصويان بالشفاء العاجل، وأن يمتّعه بالصحة والعافية، ويجزيه عن الوطن والعلم والثقافة خير الجزاء.

أخبار ذات صلة

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق