د. محمد الصياد *
أضحت الحياة الاقتصادية الدولية، برسم الأمر الواقع، مرهونة بين شد وجذب، أي المراوحة في الأخذ والرد، وفي التقدم والتراجع، وفي العلو والانخفاض. لم يعد لكلمة الاستقرار مكانٌ في قاموس الممارسة الاقتصادية الدولية، على الأقل في الأمد القريب. كلمتا «الشد والجذب» أخذتا مكانها. مواد العلاقات الاقتصادية الدولية التقليدية، استُبدلت بمواد «جديدة» في العلاقات بين الدول، جميعها دون استثناء، وذلك من قبيل حرب العقوبات، وحرب الرسوم الجمركية، وحرب الاستحواذ على المرافئ والطرق البحرية التي تؤمها وتسلكها ناقلات وبواخر الشحن العالمية.
المفارقة، أن دولة واحدة هي التي بادرت لإطلاق هذا المسار الانحرافي في العلاقات الاقتصادية الدولية، مع أنها هي التي أنشأت النظام النقدي والنظام التجاري العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية، والإضافات التي أُدخلت عليهما (منظمة التجارة العالمية في يناير 1995 بدلاً من مجرد اتفاقية «الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية» – الجات لعام 1947، واتفاقيات المناخ: اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ لعام 1992، وبروتوكو كيوتو لعام 1997، واتفاق باريس لتغير المناخ لعام 2015، وغيرها من الاتفاقيات التي واكبت مستجدات الأنشطة الاقتصادية العالمية المتعددة الأطراف)، وهي التي وضعت ضوابط حركة الملاحة الجوية والبحرية والبرية وحركة الشحن والنقل البحري وأنشطة التأمين الملازمة لكل هذه العمليات.
في لحظة تاريخية فارقة، ضاعت جهود ملايين الساعات من المفاوضات الشاقة في قاعات وغرف منظمة التجارة العالمية في جنيف. لقد كانت الوفود التي ظلت، منذ عام 1996، تتقاطر على مدار أيام الأسبوع على مقر المنظمة في جنيف، تواصل في بعض الأحيان الليل بالنهار في مفاوضات ماراثونية من أجل التوصل إلى اتفاق ولو كان ضئيلاً يزيح بعض القيود الكمية (رسوم جمركية أو إدارية) وغير الكمية (اشتراطات بيئية وصحية معقدة) من التجارة في السلع والخدمات العابرة للحدود. كان أي تخفيف كمي أو نوعي في هذه الموانع المعيقة لسلاسة حركة التجارة الدولية، يعتبر إنجازاً تفرح به الوفود المشاركة، وتتم ترجمته بعد مضي بضعة أشهر، ارتفاعاً في القيمة المطلقة للتجارة العالمية في السلع والخدمات.
الآن بضربة واحدة، يتطلب الوصول إليها قطع مسافة ربع قرن من المفاوضات المضنية، يتم التطويح بكل هذه الإنجازات التي أسهمت في التدويل الحقيقي لعوامل الإنتاج (جميع الموارد الطبيعية المستخدمة في الإنتاج، ورأس المال، وقوة العمل النشطة اقتصادياً، والمعارف والعلوم والتقنيات وريادة الأعمال وتنظيمها). ومن يقوم بهذه الأعمال هو الطرف الأول في المعادلة الجديدة التي تطبع النظام الاقتصادي الدولي السائد. وهو هنا الولايات المتحدة التي لم توفر أية دولة في العالم، صغيرة كانت أو كبيرة، صديقة أو غير صديقة، إلا وأدخلتها في «صفقتها الجديدة» القاطعة مع كل الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية الدولية، المتعددة والثنائية الأطراف.
الطرف الآخر من معادلة الصدام الاقتصادي العنيف، وهو هنا بقية أعضاء المنظومة العالمية، لن يقف مكتوف الأيدي بطبيعة الحال. فالجميع مضطر للتحوط لأخطار غير متوقعة. الصين - على سبيل المثال – التي بنت صعودها الصناعي على أساس خطر واحد، وهو النفط المنقول بحراً تحت رقابة الولايات المتحدة، حيث تمر ناقلات النفط الخام التي تنقل 80% من وارداتها من النفط عبر مضيق ملقا، الذي يمكن أن تغلقه أمريكا وتخنق الاقتصاد الصيني - تحوطاً، قننت الصين تراخيص تصدير معادنها الأرضية النادرة التي تحتكم على 70% من مخزونها العالمي، وتكاد تحتكر تكريرها (بنسبة 90%)، بحيث أصبحت الطبقة المغناطيسية لتوربينات الرياح والمحركات والبطاريات في أمريكا (والعالم)، تحت سيطرتها. كما ضخت بكين استثمارات ضخمة في مصادر الطاقة المتجددة وكهربت النقل على تلك الشبكة الضخمة من عنفات مزارع الرياح والألواح الشمسية. وهي تنتج اليوم 70% من المركبات الكهربائية العالمية، ولديها 14 مليون محطة شحن كهربائي على اتساع البر الصيني، ما أفضى إلى ثني الطلب على النفط. بموازاة ذلك تمتص المصافي الصينية الصغيرة للنفط الخام الروسي والإيراني والفنزويلي، الخاضع للعقوبات، جزءاً من واردات النفط الخام الصينية، وهي مصاف تصعب مراقبتها نظراً لصغر حجمها، بينما تعمد بكين لملء مخزونها النفطي الاستراتيجي حين تنخفض الأسعار، ما يحول المخزونات إلى مخازن زمنية ضد الضغط البحري. في الأثناء، تحفر الصين عميقاً لاستكشاف النفط في أراضيها البرية والبحرية. وتضخ شركة بتروتشاينا وشركة سينوك مليارات الدولارات في حقول عميقة للغاية مثل تاريم ومنصات الحفر البحرية. وقد تجاوز الإنفاق الرأسمالي لشركة سينوك لعام 2025 وحده 130 مليار ين (18 مليار دولار أمريكي). فكان أن ارتفع الإنتاج النفطي بنسبة 13% منذ عام 2018، إلى 4.3 مليون برميل يومياً. لكن الواردات لا تزال تؤمن 70% من الطلب (يبلغ متوسط واردات الصين من النفط الخام 12 مليون برميل يومياً). الهدف النهائي لكل هذا، هو الحصانة التشغيلية وعدم انسداد منافذ النفط. سياسة الطاقة هذه هي بمثابة لوجستيات مصيرية في هذه الأوقات المضطربة. فالأساطيل تفقد نفوذها عندما يتحرك المسار والمخزون والحمولة إلى الداخل.
*خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية
0 تعليق