رغم مرور ما يقارب ثلاثة أعوام على اندلاع حرب الجيش السوداني على مليشيا الدعم السريع، ما زالت البلاد تواجه احتكارا سياسيا لقضيتها من جانب الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، وتطاول أزمتها؛ بسبب ربط الحلول بمصالح هذه القوى، والتي تتصادم مع استقلال القرار الوطني.
ومع تصاعد التدخلات الأجنبية وارتكاب جرائم مليشيا الدعم السريع بحق المدنيين، بات من الضروري التفكير في مبادرات جريئة تخرج الملف السوداني من دائرة الجمود، وتعيده إلى قلب الأجندة الدولية.
من بين المقترحات التي تلوح في الأفق، يبرز خيار أن يقود رئيس الوزراء السوداني حملة دبلوماسية واسعة تهدف إلى عقد جلسة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة حول السودان.
خطوة كهذه ليست مجرد حدث بروتوكولي، بل يمكن أن تشكل منعطفا إستراتيجيا يعيد للسودان زمام المبادرة، ويضع العالم أمام مسؤولياته تجاه معاناة شعب يتعرض لحرب بالوكالة وتدخلات خارجية مكشوفة وتورط مرتزقة أجانب من كولومبيا إلى دول الغرب الأفريقي.
في هذا السياق، يمكن مقاربة الفكرة من ثلاث زوايا رئيسية:
إمكانات الجمعية العامة. متطلبات التحرك الدبلوماسي. ثم القيمة السياسية والإعلامية المتوقعة.هل من بديل إستراتيجي لمجلس الأمن؟
منذ اندلاع الحرب في السودان، لم يتمكن مجلس الأمن الدولي من اتخاذ خطوات حاسمة لوقف النزيف، أو حتى إصدار موقف موحد يدين بوضوح الجرائم المرتكبة.
والسبب معروف: الانقسامات العميقة بين القوى الكبرى، واستخدام حق النقض، مما جعل المجلس رهينة لصراعات النفوذ الدولي.
ومما يعزز الحاجة إلى سلوك طريق الجمعية العامة، أن المقاربة الأميركية للأزمة السودانية ما تزال تدور في الحلقة نفسها التي فجرت الحرب أصلا.
فالمقترح الأخير الذي نُقل إلى رئيس مجلس السيادة عبر مستشار للرئيس الأميركي دونالد ترامب في لقاء زيورخ، ليس سوى نسخة معدلة من الاتفاق الإطاري الأول الذي أدى إلى شرخ عميق بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، وأدخل البلاد في أتون المواجهة الحالية.
إعلان
جوهر الرؤية الأميركية ظل ثابتا: تمكين تحالف (قحت) وإقصاء تيارات سياسية أخرى، مع إعادة تدوير مليشيا الدعم السريع تحت شعار "هيكلة الجيش".
هذا المسار، في نظر كثير من السودانيين، لا يعني حلا حقيقيا بقدر ما هو إعادة إنتاج للأزمة وتكريس لجيش موازٍ يهدد بقاء الدولة. لذلك يصبح تحريك الملف في الجمعية العامة خطوة إستراتيجية، ليس فقط لكسر عجز مجلس الأمن، بل أيضا لتجاوز المقاربة الأميركية الضيقة وتوسيع دائرة العمل الدبلوماسي نحو رؤية أكثر توازنا وعدلا.
من خلال هذه الآلية، يمكن طرح القضية السودانية بكل أبعادها: التدخلات الأجنبية في الحرب، جرائم مليشيا الدعم السريع بحق المدنيين، التداعيات الاقتصادية والاجتماعية المدمرة، بل وحتى الرؤية الوطنية لمرحلة ما بعد الحرب.
هذا الطرح سيجعل صوت السودان مبادرة إيجابية تحمل تصورا واقعيا، لا مجرد تذمر أو استجداء للتعاطف.
كما أن الجمعية العامة ليست مقيدة بآلية الفيتو، مما يعني أن القرارات يمكن أن تصدر بأغلبية بسيطة أو ثلثي الأعضاء في بعض الحالات.
صحيح أن هذه القرارات غير ملزمة قانونيا مثل قرارات مجلس الأمن، لكنها تملك قوة سياسية وأخلاقية وإعلامية ضخمة، وقد استخدمت في أزمات كبرى مثل العدوان الثلاثي على مصر 1956، والحرب الكورية، وقضية فلسطين.
متطلبات النجاح الدبلوماسي
إن الدعوة لعقد جلسة خاصة أو دورة استثنائية طارئة للجمعية العامة من الناحية الإجرائية تتطلب دعم ما لا يقل عن ثلث الأعضاء، أي 64 دولة. قد يبدو الرقم كبيرا، لكنه في الواقع قابل للتحقيق إذا عرف السودان كيف يوظف عضويته في التكتلات الكبرى التي ينتمي إليها:
الجامعة العربية: 22 دولة يمكن أن تشكل نواة دعم أولية. الاتحاد الأفريقي: 55 دولة، ما يعني أن تأمين غالبية منها يضمن النصاب مباشرة. منظمة التعاون الإسلامي: 57 دولة، كثير منها له مواقف متعاطفة مع السودان. مجموعة الـ 77 + الصين: 134 دولة، تشكل أكبر كتلة تفاوضية في الأمم المتحدة. حركة عدم الانحياز: 120 دولة، كثير منها يرفض التدخلات الأجنبية ويدعم سيادة الدول.بالتالي، فإن التحرك الذكي لا يتطلب إقناع جميع الأعضاء، بل مجرد تعبئة كتلة إقليمية أو المزج بين مجموعتين، الأمر الذي يجعل تأمين النصاب ممكنا بل وسهلا نسبيا إذا تم عبر حملة دبلوماسية نشطة يقودها رئيس الوزراء بنفسه.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن قيادة رئيس الوزراء هذه المبادرة لا تُفهم بمعزل عن التنسيق المؤسسي مع مجلس السيادة، إذ إن السياسة الخارجية في السودان تظل تقاطعا بين ملفات حكومية وأخرى وُصفت بأنها سيادية.
ومن هنا فإن إشراك مجلس السيادة في المبدأ يعزز فرص نجاح التحرك بدل أن يُدخل المبادرة في تنافس داخلي قد يعرقلها.
ويُضاف إلى ذلك أن الدكتور كامل إدريس- الذي اختير بتزكية من رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان- يمثل عنصر قوة لهذه المبادرة بحكم خبرته وعلاقاته الدولية.
وبالتالي فإن نجاح هذه الخطوة سيُحسب بصورة جماعية، حيث يعكس توافقا بين رئاسة الوزراء ومجلس السيادة، ويُبرز في الوقت ذاته قدرة السودان على تقديم مبادرة موحدة للعالم، لا مجرد أصوات متفرقة.
إعلان
لكن النجاح لا يقاس فقط بالأرقام، بل أيضا بالقدرة على صياغة خطاب جامع يتجاوز الانقسام التقليدي بين القوى الدولية. فالمطلوب ليس مجرد حشد أصوات، بل تقديم سردية سودانية متماسكة تتحدث بلغة المصالح المشتركة: الأمن الإقليمي، مكافحة الإرهاب، حماية الممرات التجارية، الحد من الكوارث الإنسانية التي يمكن أن تولد موجات لجوء جديدة تهدد الاستقرار الدولي.
إن وضع السودان في قلب هذه المعادلة سيمكنه من بناء تحالفات جديدة وتوسيع دائرة التعاطف الدولي، خصوصا إذا تم تقديم رؤية وطنية متماسكة للتعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار. فالخارج لا يريد فقط شكاوى، بل خططا واضحة يمكن أن يستثمر فيها سياسيا واقتصاديا.
القيمة السياسية والإعلامية لصوت السودان في الجمعية العامة
الجمعية العامة ليست مجرد قاعة للاجتماعات، بل منصة عالمية تتابعها وسائل الإعلام في كل القارات. كل خطاب يُترجم مباشرة إلى ست لغات رسمية: العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، الروسية، والصينية، ما يجعل رسائل السودان تصل إلى جمهور عالمي في آنٍ واحد دون وسيط.
هذا الزخم الإعلامي لا يمكن مقارنته بأي منبر آخر، وهو بحد ذاته مكسب سياسي ضخم. فمجرد انعقاد جلسة خاصة سيعني أن السودان عاد إلى قلب الأجندة الدولية بعد أن كاد يغيب تحت ركام أزمات أوكرانيا وغزة وأزمات أخرى تشغل القوى الكبرى.
أما محتوى الخطاب السوداني، فيمكن أن يقوم على ثلاثة محاور متكاملة:
الأول، كشف الحقائق: توثيق الجرائم بحق المدنيين، وفضح التدخلات الخارجية التي تغذي الحرب. الثاني، طرح رؤية وطنية: برنامج عملي للتعافي الاقتصادي والاجتماعي وإعادة الإعمار، مع تحديد احتياجات السودان بوضوح. الثالث، دعوة للتضامن الدولي: حشد العالم سياسيا وإنسانيا للضغط من أجل وقف الحرب ودعم الشعب السوداني.بهذا التوجه، يمكن أن تحقق المبادرة عدة مكاسب أساسية:
كسر الجمود الدولي عبر تجاوز انقسامات مجلس الأمن. إعادة تعريف الرواية السودانية بحيث يقدم السودان صورته بنفسه بدل أن تفرضها تقارير الآخرين. خلق ضغط سياسي على داعمي المليشيا من خلال إدانة علنية وموثقة. فتح قنوات لبناء تحالفات جديدة تستثمر في استقرار السودان مستقبلا. وبعيدا عن الطابع الإجرائي، فإن الظهور الشخصي لرئيس الوزراء على المنصة سيبعث رسالة بالغة الأهمية: أن السودان ليس ضحية عاجزة تنتظر حلولا مفروضة، بل دولة تسعى لقيادة مسارها بوعي وشجاعة سياسية.ضرورة سيادية لا رفاهية دبلوماسية
إن المبادرة لعقد جلسة خاصة للجمعية العامة ليست مجرد طموح، بل هي تحدٍ حقيقي وضرورة إستراتيجية.
ولكي تنجح هذه الخطوة، يجب على الدبلوماسية السودانية أن تتحول إلى قوة دافعة، لا أن تكتفي بدور المتلقي. يتطلب ذلك تنسيقا داخليا لا يترك مجالا للخلافات، وحشدا دبلوماسيا مدروسا يستفيد من كل التحالفات الإقليمية والدولية.
إنها فرصة تاريخية لإعادة تعريف السودان، وتقديم صوته للعالم، لا كضحية، بل كدولة ذات سيادة، تقود مصيرها وتصوغ مستقبلها.
إن مثل هذه المبادرة قد تكون السبيل الوحيد حاليا لكسر الجمود الدولي، وإعادة الاعتبار لقضية السودان بعد أن كادت تُختزل في صراعات النفوذ الإقليمي والدولي.
وحين يعلو صوت السودان من على منبر الأمم المتحدة، مترجما إلى ست لغات عالمية في وقت واحد، فإنه سيكتسب وزنا مضاعفا يفوق أثر البيانات المتفرقة أو التحركات الخجولة.
إنها فرصة لتحويل المأساة السودانية من أزمة منسية إلى قضية حية تفرض على العالم التحرك، وتعيد للسودان زمام المبادرة في صياغة مستقبله.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق