افتتاحية «منتدى شرق آسيا»
تومض مؤشرات الإنذار في جميع مفاصل الاقتصاد العالمي، فبعد خمس سنوات على الركود الذي سبّبته الجائحة، وكان شبه حتمي آنذاك، أننا مقبلون على ركود جديد، ناجم إلى حد كبير هذه المرة عن سياسات اقتصادية سيئة، فبعدما أظهر تقرير الوظائف الأخير في الولايات المتحدة أداءً هزيلاً، من الواضح أن حرب الرسوم الجمركية، التي يخوضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بدأت تلقي بظلالها على الداخل الأمريكي.
ولا تُبشر أحدث البيانات في قطاع الخدمات الأمريكي بالخير، فتكاليف الإنتاج ترتفع، وقراءات التوظيف بالكاد تتحرك. ومع ذلك، فإن الحديث عن «الركود التضخمي»، أي تراجع النمو مع ارتفاع الأسعار، لا يزال مبكراً، لكنه احتمال حاضر بقوة. وفي قلب هذه المعضلة يقف مجلس الاحتياطي الفيدرالي، بين مطرقة ضغوط ترامب المتكررة لخفض أسعار الفائدة لتحفيز النمو، وسندان مهمته الأساسية في السيطرة على التضخم!
على المقلب الآخر، ورغم تباطؤ النمو الصيني إلى معدلات أقرب إلى الاقتصادات متوسطة الدخل، لا تزال البلاد تسجل قفزات مستمرة، وسيظل طلبها الداخلي عنصراً حاسماً في دفع عجلة الاقتصاد العالمي، فمنذ أكثر من عقد، تعِد بكين بالانتقال من نموذج يعتمد على الاستثمار والتصدير، إلى نموذج يقوده الاستهلاك المحلي.
ومع اشتداد الضغوط الجيوسياسية والحرب التجارية مع واشنطن، بات هذا التحول ضرورة ملحة، لا مجرد خيار اقتصادي، لكن يجب مراعاة أمر مهم، صحيح أن الشركات الصينية، أظهرت مرونة أمام الرسوم الجمركية الأمريكية، إلا أنه لا توجد سوق يمكن أن تحل محل الولايات المتحدة بشكل كامل كمصدر للطلب على السلع الصينية.
وتشير البيانات الأخيرة إلى أن مساهمة الاستهلاك في النمو الاقتصادي الصيني ارتفعت، لكنها لا تزال دون مستويات ما قبل الجائحة. وتبقى المعضلة في أنه رغم تدابير التحفيز الحكومية، من دعم شراء السلع المعمرة، إلى تقديم قروض استهلاكية بفائدة مخففة، ما الذي يدفع الأسر الصينية إلى الإنفاق بدلاً من الادخار؟
يرى باحثون أن الصعوبات التي تواجهها الصين في التحول نحو نموذج قائم على الاستهلاك، قد شُخِّصت بشكل خاطئ، ويُشار هنا إلى وجود مشكلتين رئيسيتين تتجنب السلطات الصينية ربطهما بضعف الطلب المحلي، وهما تراجع قطاع العقارات والعجز المالي للحكومات المحلية.
لا شك في أن تعثر قطاع العقارات أثقل كاهل النمو الصيني، فبعد انهيار «إيفرغراند» عام 2021، تواصل أسعار المساكن انخفاضها المستمر، ولولا تدخل الحكومة الواسع، لكان الانهيار أشد عمقاً. وتداعيات الأزمة لا تقتصر على العقارات نفسها، بل تمتد إلى ضعف الاستثمارات في السلع المعمرة، وتراجع إنفاق الأسر القلقة من انهيار قيمة ممتلكاتها.
أما أزمة مالية الحكومات المحلية، فهي «أخطر وأعمق»، ورغم صعوبة تقدير حجمها بسبب غياب الشفافية، إلا أن ديونها تشكل نسبة معتبرة من إجمالي عبء البلاد، وقد سمحت بكين العام الماضي لهذه الحكومات بإعادة هيكلة ديونها المخفية، عبر إصدار سندات خاصة، وأعلنت بالفعل بعض النجاحات، مثل خروج منغوليا الداخلية من قائمة المقاطعات عالية المخاطر، لكن الطريق لا يزال طويلاً ومملوءاً بالتحديات.
إن رحلة الصين، التي طال انتظارها، نحو نموذج يقوده الاستهلاك، لم تعد مجرد هدف اقتصادي مؤجل، بل ضرورة استراتيجية في ظل إغلاق الأسواق الغربية أبوابها أمام صادراتها، ما يخلق توترات دبلوماسية جديدة، في ظل مخاوف الدول الأخرى من تأثير وفرة السلع الصينية على الصناعات المحلية.
وإذا نجحت بكين في هندسة هذا التحول، فسيعني ذلك تحسين مستوى معيشة المواطنين الصينيين، عبر تقليل الادخار وزيادة الإنفاق، فضلاً عن معالجة نقاط الخلاف مع الشركاء التجاريين بشأن «فائض الطاقة الإنتاجية». وفي الوقت الذي يهدد فيه الاقتصاد الأمريكي بالانزلاق إلى ركود، قد يعود العالم مجدداً للاعتماد على الطلب الصيني، لتخفيف أثر التباطؤ العالمي.
0 تعليق