في العاشر من أغسطس/آب، اختار جيش الاحتلال أن يبعث برسالة غير اعتيادية عبر مناورة مفاجئة حملت اسم "طلوع الفجر"، إذ بدت أقرب إلى محاكاة حرب شاملة منها إلى تمرين روتيني، لتكشف حجم القلق الذي يعيشه قادة تل أبيب وهم يراقبون ما قد يترتب على أي مواجهة مقبلة في غزة.
فالمناورة لم تجر في فراغ، بل جاءت وسط نقاش محتدم حول "خطة السيطرة على غزة"، وفي ظل إدراك متزايد أن القطاع لم يعد ساحة معزولة، بل عقدة قادرة على جرّ المنطقة كلها إلى تصعيد متزامن.
من هنا، أراد الاحتلال أن يثبت لجمهوره أولا ولخصومه ثانيا أنه مستعد لمشهد أكثر تعقيدا مما قد يظهر للعيان، غير أن القراءة المتأنية لهذه المناورة تكشف أن ما تصفه تل أبيب بالجاهزية لا ينفصل عن هواجس متراكمة.

مناورات غير تقليدية
ليست هذه المناورة الأولى من نوعها، لكن ما جعلها مختلفة هذه المرة هو اتساع السيناريوهات التي شملتها، إذ تجاوزت المواجهات المعتادة مع حماس أو حزب الله.
فقد تضمن تمرين "طلوع الفجر"، الذي استمر 5 أيام، محاكاة تسلل مسلحين من الحدود الأردنية، وهجوما بطائرات مسيرة على مطار رامون في إيلات، وإطلاق صواريخ من إيران، إضافة إلى ضربات يشنها الحوثيون باتجاه منصة غاز في البحر.
وشاركت في التدريب العسكري جميع أذرع الجيش، بما في ذلك سلاح الجو وسلاح البحرية والقيادات المختلفة، حيث عملت بتنسيق كامل لمواجهة سيناريوهات متعددة الجبهات، وفقا لوسائل إعلام اسرائيلية.
وكشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية أن المناورة تزامنت مع زيادة حركة قوات الأمن والسفن في البحر، مشيرة إلى أنه "لا يوجد أي قلق من وقوع حادث أمني"، في محاولة لطمأنة الجمهور الإسرائيلي على سلامة العمليات، رغم حجم التهديدات المحاكاة.
إعلان
وتبع المناورة في 19 أغسطس/آب، إجراء تدريبات بحرية في البحر الأحمر، تضاف إلى سلسلة تدريبات مماثلة خلال العام الأخير، خصوصا بعد استهداف الحوثيين للسفن المتجهة إلى إسرائيل منذ بداية حرب غزة، وفق ما أعلن جيش الاحتلال.
وشملت التدريبات عمليات واسعة، في إطار ما وصفه الاحتلال بمحاولة الرد على هجمات الحوثيين على الأراضي الإسرائيلية، واستهداف بنى تحتية للطاقة في عمق اليمن يصل إلى نحو 150 كيلومترا، وألفيْ كيلومتر عن الشواطئ الإسرائيلية، نفذها سلاح البحرية بذريعة حماية الأمن القومي ومجال النقل البحري الدولي.
وفي السياق نفسه، نفذ سلاح الجو وسلاح البحرية الإسرائيليان في يونيو/حزيران الماضي تدريبا مشتركا قبالة سواحل إيلات، شمل محاكاة إنقاذ مصابين من سفينة باستخدام مروحية من طراز "ينشوف" (بلاك هوك).

ردع أم رسائل متعددة الجبهات؟
وقد رافق تلك التدريبات سيل من التصريحات من كبار المسؤولين في تل أبيب، عكست بدورها طبيعة الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها لفرض نفوذها بالقوة.
فخلال جولة داخل قطاع غزة المحاصر، قال رئيس أركان الجيش إيال زامير إن "المعركة الحالية ليست حدثا موضعيا، بل هي حلقة في خطة طويلة الأمد ومدروسة، في إطار رؤية متعددة الجبهات تستهدف كل مكونات المحور، وعلى رأسه إيران".
وأشار إلى أن المرحلة التالية من العملية العسكرية ستشهد تعميق الضربات ضد حماس في مدينة غزة حتى تحقيق "الحسم"، وفق تعبيره.
أما وزير الدفاع يسرائيل كاتس، فذهب أبعد من ذلك حين توعد الحوثيين بـ"ثمن مضاعف" على كل محاولة لاستهداف إسرائيل، متوعدا بقطع "كل يد تُرفع على إسرائيل".
وأوضح أن الجيش فرض "حصارا جويا وبحريا يؤلم الحوثيين بشدة"، وأن الضربات الأخيرة على البنى التحتية للطاقة في اليمن ليست سوى بداية، في إشارة إلى إستراتيجية ردع ممتدة.
لم تمر تلك التحركات دون ردود فعل إقليمية؛ إذ نقل موقع ""ناتسيف نت"" العبري عن وسائل إعلام إسرائيلية أن مناورة أجرتها البحرية الإسرائيلية مؤخرا أثارت حفيظة وقلقا في مصر، في ظل تصاعد التوترات الإقليمية، ومع ذلك -بحسب الموقع- فإن القاهرة ترى أن المناورة الأخيرة جاءت لامتصاص الغضب الداخلي في إسرائيل أكثر من كونها استعدادا لتهديد عسكري مباشر.
وكان وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي في وقت سابق حذر من أن أي تصعيد في البحر الأحمر ستكون له تداعيات اقتصادية وأمنية خطيرة، بالنظر إلى أهمية الممر المائي للتجارة العالمية وللاقتصاد المصري، ولا سيما مع تزايد هجمات الحوثيين في المنطقة.

ومن جانبه، يرى مسؤول الشؤون اليمنية في مجموعة الأزمات الدولية، أحمد ناجي، أن المناورات الإسرائيلية جاءت في سياق التصعيدات وليست مجرد تدريبات روتينية، ويقول في حديثه للجزيرة نت إن الرسالة الإسرائيلية واضحة: استعداد كامل لأي مفاجأة عسكرية، سواء من إيران أو الحوثيين.
ويشير ناجي إلى أن البحر الأحمر واليمن لم يُعدا جبهة منفصلة عن باقي الجبهات، فالتحولات الإستراتيجية تشمل استخدام إسرائيل لسفنها الحربية مباشرة في ضرب الحوثيين، وليس الاكتفاء بالطيران، ما يعكس انتقالها من الدفاع إلى الهجوم الاستباقي، رغم محدودية المعلومات الاستخباراتية عن الحوثيين وانشغالها بجبهات أخرى.
إعلان
ويضيف ناجي أن العمليات الإسرائيلية تمثل في الوقت ذاته رسالة وردعا للمحور بأكمله، وقد تكون مقدمة لعمل عسكري قادم ضد مجموعات ترى إسرائيل أنها لم تضعفها عسكريا بعد وعلى رأسها الحوثيون، خاصة بعد إعلان الحوثيين عن "المرحلة الرابعة" التي تستهدف أي سفن لشركات تتعامل مع إسرائيل، حتى لو لم تكن إسرائيلية مباشرة.
وفي المقابل، كشفت مصادر يمنية عن تحركات واسعة للحوثيين، تضمنت نقل أسلحة متطورة وذخائر بحرية وساحلية إلى الساحل الغربي والمرتفعات الإستراتيجية المطلة على البحر الأحمر وباب المندب، بالإضافة إلى إعادة تموضع أنظمة الصواريخ والرادارات وشبكات الاتصالات والتقنيات العسكرية التي تضررت من الهجمات السابقة.
وشملت التحضيرات تعزيز الاستطلاع البحري وإعادة نشر الزوارق والسفن المسيرة، مما يعكس استعداد الحوثيين لمواجهة أي تصعيد إسرائيلي محتمل، ويحول البحر الأحمر إلى ساحة مواجهة فعلية ضمن سباق التسلح والتأهب الإقليمي.
إستراتيجية "التحديات المتزامنة"
ترى قيادة الاحتلال الاسرائيلي أن ضرب اليمن أو توجيه ضربات استباقية في لبنان وإيران ليس منفصلا عن التحضير لاجتياح غزة، بل هو جزء من خطة متكاملة لإظهار قدرة الجيش على التحرك في مسرح عمليات إقليمي واسع، وفق ما نقلته صحيفة معاريف العبرية.
وجاء استهداف ساحل اليمن بالتوازي مع الاستعدادات لاحتلال مدينة غزة، ووفقا لمعاريف تشمل العمليات المخططة تشغيل نيران المدفعية الدقيقة وصواريخ "براك" التي طورتها شركة "إلبيت سيستيمز"، والمعدة لضرب أهداف على بعد يصل إلى 30 كلم أو أكثر، بإطلاقها من البوارج الحربية، وسيعمل سلاح البحر بالتوازي مع الطائرات الحربية لتوفير مظلة هجومية متكاملة.
وصنف الخبير العسكري ضيف الله الدبوبي مناورة "طلوع الفجر" وما تلاها من تدريبات على أنه تمرين عسكري بدون قطعات فعليّة، يعتمد على قيادة مركزية واتصالات لاسلكية وتليفونية، لكنه يعكس في الوقت ذاته عمق الهواجس الإسرائيلية واستعدادها لتوسيع نطاق العدوان.
يقول الدبوبي في حديثه للجزيرة نت إن المشاركة الكاملة لجميع الأذرع العسكرية إلى جانب الموساد، تكشف عن رغبة الاحتلال في اختبار جاهزيته لمواجهة تهديدات متعددة الجبهات قبل تنفيذ أي خطوة في غزة.
ومن خلال محاكاة الهجمات من الشمال والبحر واليمن، يظهر التمرين أن إسرائيل تعامل غزة كبوابة لإشعال صراع إقليمي شامل، مستفيدة من التجارب السابقة لتوسيع نطاق قوتها وتقليص قدرة خصومها على الرد.
وشدد الدبوبي على دور السلاح البحري، رغم كونه الأصغر حجما بين الأذرع العسكرية، حيث أظهر التمرين قدرته على الوصول إلى أي هدف بحري، مما يعكس التحول الإستراتيجي لإسرائيل نحو الهجوم الاستباقي وفرض السيطرة على الممرات البحرية الحيوية، كما أن تفاصيل المناورة تنبثق من محاولة اختبار جاهزية الجيش بشكل شامل على مختلف الجبهات.
وفي الوقت الذي تستعرض فيه إسرائيل قوتها العسكرية، يبقى المدنيون في غزة والمحيط الإقليمي هم الأكثر تعرضا لخطر التصعيد، بينما تتخذ تل أبيب من هذه المناورات أداة لإرسال رسائل سياسية وعسكرية مزدوجة: ردع خصومها واستعراض نفوذها الإقليمي.
0 تعليق