
اقتصادي ومصرفي مصري متخصص في السياسات النقدية وأسواق الأسهم والسندات.
24/8/2025-|آخر تحديث: 12:08 (توقيت مكة)
قالت وكالة رويترز الأسبوع الماضي إن الزيارة التي كانت مقررة للمفاوضين التجاريين الأميركيين إلى نيودلهي في الفترة من 25 إلى 29 أغسطس/آب قد أُلغيت، ما يعني تأخير المحادثات بشأن اتفاقية تجارية مقترحة، وينذر بتبديد الآمال في تخفيف الرسوم الجمركية الأميركية المضاعفة المفروضة على السلع الهندية اعتبارا من 27 أغسطس/آب الجاري.
وقالت مصادر الوكالة إنه من المرجح الآن تأجيل الجولة الحالية من المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الثنائية المقترحة إلى موعد آخر لم يُحدد بعد، وذلك بعد أن فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب رسوما جمركية إضافية بنسبة 25% على السلع الهندية، مشيرة إلى استمرار تزايد واردات نيودلهي من النفط الروسي، في خطوة أدت إلى تصعيد حاد في التوترات بين البلدين.
وستؤدي الرسوم الجديدة المفروضة على البضائع الهندية، والتي يفترض أن تدخل حيز التنفيذ 27 أغسطس/آب، إلى رفع الرسوم الجمركية على بعض الصادرات الهندية لما يصل إلى 50%، لتكون من بين أعلى الرسوم المفروضة على أي شريك تجاري للولايات المتحدة.
وبدأت الأزمة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والهند عندما أعلن ترامب عن فرض تعريفات جمركية جديدة على الواردات الهندية. وجاء الإعلان الأول في أوائل أغسطس/آب 2025 بفرض تعريفات تعويضية بنسبة 25% على السلع الهندية؛ بحجة إجبار الهند على خفض العوائق أمام صادرات الولايات المتحدة.
ولم تمضِ فترة قصيرة حتى أعلنت الإدارة الأميركية عن ضربة جديدة، في صورة عقوبات تجارية، ردا على استمرار نيودلهي في شراء النفط الروسي، رافعة التعريفات إلى حد وصل إلى 50% على بعض السلع، وهو ما يتجاوز بوضوح النسبة المفروضة على المشتريات الأميركية من أغلب الدول الآسيوية الأخرى.
واعتُبرت الرسوم المفروضة على الهند من أقسى الإجراءات الأميركية التي يتم فرضها على دولة شريكة منذ عقود.
إعلان
ولم تنطلق الحرب الاقتصادية بين البلدين من فراغ، إذ يرى كثير من المحللين أنها كانت جزءا من صورة أكبر تشمل صراعا دوليا على نفوذ واسع وأبعاد جيوسياسية عميقة.
وفي محاولة منها للضغط على موسكو بوسائل اقتصادية، وجهت الولايات المتحدة سهامها نحو الهند، التي لعبت دورا فاعلا في توازن الأسواق العالمية عبر زيادة مشترياتها من النفط الروسي بأسعار منخفضة، بعد أن ارتفعت حصة روسيا من واردات الطاقة الهندية إلى نحو 42%، مقارنة بأقل من 1% قبل الحرب الأوكرانية.
واستغل ترامب هذا التغيير لتوجيه ضربة مزدوجة، من خلال تصعيد ضغطه الاقتصادي المباشر، وتحقيق تصفية سياسية عبر فرض تعريفات قاسية.
وفي تصريح نشرته وكالات الأنباء، اتهمت وزارة الخزانة الأميركية الهند بالاستفادة المفرطة من فارق أسعار الطاقة، والسعي لتحقيق أرباح طائلة عبر شراء النفط الروسي الرخيص ثم بيعه في صورة منتجات مصنعة، ما اعتُبر استغلالا غير مقبول للعقوبات المفروضة على موسكو، وفقا لوجهة النظر الأميركية.
ولم تفرض الإدارة الأميركية إجراءات مماثلة على الصين رغم أنها مشترٍ كبير للطاقة الروسية، وهو ما دفع الهند للقول إن التعريفات على منتجاتها "انتقائية وظالمة".
وكان لهذه الضربات الاقتصادية تداعياتها المؤلمة والمباشرة في الهند، خاصة على القطاعات الحيوية مثل النسيج والمجوهرات والأحذية، التي تشكل السوق الأميركية شريانا رئيسيا لها.
وأشارت تقديرات معاهد بحثية إلى أن الرسوم الجمركية الأميركية ستصيب ما يصل إلى 70% من صادرات الهند إلى الولايات المتحدة، بقيمة تدور حول 66 مليار دولار، ما يعني تعرض الاقتصاد الهندي لضغوط كبيرة.
وجاءت ردة الفعل الهندية في صورة دفاعية، حيث أعلن رئيس وزرائها ناريندرا مودي- الذي أُحبطت توقعاته بالحصول على استثناء من تعريفات ترامب التجارية بسبب علاقتهما الشخصية- عن خطوات نحو تعزيز الاعتماد على السوق المحلية، بما في ذلك تخفيض الضرائب على السلع والخدمات، ودعم صناعات مثل الأسمدة والمحركات الكهربائية، والبطاريات، كما تراجعت الهند عن فرض بعض الرسوم الجمركية لفترة مؤقتة بهدف تخفيف آثار هذا التصعيد.
وفي ظل التوتر القائم، ظهر توجه إستراتيجي جديد في العلاقات الهندية مع القوى الإقليمية، إذ بدت الهند، المصممة على الحفاظ على استقلالها الإستراتيجي، تتجه للتقرب من الصين وروسيا، فيما اعتبر بداية تحول كبير بعيدا عن الهيمنة الأميركية الأحادية.
وتشير الزيارة المرتقبة لوزير خارجية الصين إلى نيودلهي، كما استئناف العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع بكين، إلى محاولة الهند تأمين شبكة من المصالح الاقتصادية المتوازنة في مواجهة الضغوط الأميركية.
وعلى المستوى السياسي الداخلي، تصاعدت حدة الاحتجاجات في بعض المناطق مثل البنجاب، حيث أحرق أعضاء من جماعات المزارعين دمى تمثل ترامب، في تعبير عن الغضب الشعبي من الإجراءات التي وُجهت للزراعة والتجارة في بلدهم.
ووجهت جماعات المحتجين اتهامات للولايات المتحدة بأنها تطبق معايير مزدوجة، إذ تسمح لنفسها بالتعامل مع روسيا على نحو متساهل، بينما تعاقب الهند على نفس الممارسات.
إعلان
في القانون والسياسة الدوليين، يبدو تصعيد الحرب الاقتصادية على النحو الذي نراه حاليا أقرب لأن يكون جزءا من إستراتيجيات ترامب التي تحولت نحو الاقتصاد كأداة قوة سياسية، على حساب الحوار التقليدي والسيادة الدبلوماسية.
ويرى محللون أن هذه المراوغات التجارية تُضعف الروابط بين واشنطن ونيودلهي، وقد تدفع الهند لتعزيز تقاربها مع دول خارج الإطار الغربي.
لم يكن تصاعد الحرب الاقتصادية بين أميركا والهند مجرد نزاع تجاري بالمعنى الضيق، بل نتيجة تراكب متشعب من التحولات الاقتصادية والدبلوماسية، حيث جاء فرض تعريفات قياسية على السلع الهندية في سياق مواجهة لمواقف نيودلهي تجاه الحرب الأوكرانية، خاصة موقفها المحايد الإستراتيجي، وتبنيها مصادر بديلة للنفط عبر موسكو.
وفي حين لا تبدو الهند مستعدة للخضوع، بل تعزز من قدراتها الذاتية وتعيد صياغة تحالفاتها في آسيا والعالم، فربما يتطور الأمر ليصبح تصدعا عميقا في تحالفات القرن الـ21، تشهد فيه الهند دورا أكثر استقلالية، وتواجه فيه أميركا تحديا جديدا في الحفاظ على مناطق نفوذها التقليدية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق