غاليبولي ـ هناك مدن لا تزار، بل تكتشف. وغاليبولي الواقعة في قلب إقليم بوليا جنوبي إيطاليا، لا تعد استثناء. فهي من المدن التي لا تظهر على الخريطة إلا حين تشتد حاجتك إلى تجربة جديدة تخبرك أن التاريخ لا يعيش فقط في الكتب، بل في الموانئ ورائحة الزيتون.
هذه المدينة الهادئة لا تتصدر قوائم السياحة العالمية، لكنها تعرف تماما كيف تأسر كل من يزورها وتجعله يعيد حساباته مع المدن غير الشهيرة.
وبالفعل، نجحت غاليبولي في الاحتفاظ بإيقاعها الخاص، كما لو أن الموج يتحرك ليحكي قصة مختلفة عن باقي المناطق الإيطالية، ويتركك تستمتع بعذوبة الوصول إلى مرفأ متوازن بين البساطة والجمال.
الهدوء بلمسة إيطالية
بعيدا عن الزحام المصطنع الذي يخنق شرايين المدن الكبيرة، وجدتُ في غاليبولي ما يشبه استراحة الروح.

مدينة قديمة تسكنها الذاكرة بمينائها الحجري العتيق، وبيوتها البيضاء وأسواقها التي تضج بالمنتجات المحلية، وصوت الصيادين كل صباح.
يبدأ اليوم هنا ببطء مريح وبوجبة إفطار بسيطة، مكونة من كوب قهوة إيطالية و"باستيشوتو ليتشيزي"، وهي كعكة صغيرة مصنوعة من العجين وكريمة الكاسترد، إنها من الوصفات التقليدية التي تشتهر بها المدينة الصغيرة، والتي لا تحتاج إلى الضجيج لتدهشك، بل إلى مذاق وذاكرة ووقت كاف لتصغي إلى ما حولك.
لكن الحياة تتوقف بشكل غريب بين الساعة الواحدة ظهرا والرابعة عصرا، لأن السكان المحليين يذهبون إلى منازلهم لكي يناموا نوم القيلولة، وهو طقس مقدس لا يمكنهم الاستغناء عنه حتى في موسم الصيف.
نوم القيلولة هو طقس مقدس لدى أهل غاليبولي، فهو لا يستغنى عنه حتى في موسم الصيف
فإذا رأيت بعض أهل المدينة في غفوة على كرسي شاطئي بألوان زاهية بجانب البحر اللازوردي، فلا تنزعج من الأمر، فأنت ستتأقلم مع هذا الوضع سريعا، وقد تراه فرصة جيدة لاكتشاف بعض المحلات النادرة التي تظل مفتوحة لشراء حقيبة جلدية مصنوعة يدويا أو أكسسوار مستوحى من روح البحر.
مساء بإيقاع حيوي
وفي المساء، تتبدل ملامح غاليبولي، كأنها انتزعت ثوب النهار لتدخل طقوسا شعرية خاصة بها، وتظهر المدينة القديمة كجزيرة صغيرة منسية، تتدلى من اليابسة بخيط حجري يتمثل في الجسر الذي يفصلها عن المدينة الحديثة.

وأنا أعبر هذا الجسر مشيا وأصغي لصوت خطواتي على البلاط القديم، يصبح البحر أكثر هدوءا، في حين تكتظ الشوارع بالسياح وهم يستمتعون بنعومة الهواء النقي والموسيقى الكلاسيكية الإيطالية، التي تتسلل من نوافذ المنازل أو المقاهي الصغيرة.
إعلان
جلست على كرسي خشبي للتأمل في المشهد أمامي، فإذا بالشمس تغرب عند أفق البحر دون استعجال، وكأنها تهمس له بارتياح "ليس كل غروب حزينا، لأن بعضه حكيم.. سأراك غدا".
يتحرك كل شيء في غاليبولي بروية، حتى القطط تمشي بكبرياء، كما لو كانت المسؤولة عن ترتيب برنامج هذه الليلة. وبين أحاديث السكان المحليين وضحكات السياح على شرفات المطاعم، يصبح الأكل ألذ، كأن النكهات تحتفظ بسحرها وأسرارها لوقت العشاء فقط.
رائحة التاريخ والزيتون
وفي اليوم التالي، قررت التعرف أكثر على تاريخ المدينة من خلال زيارة غاليبولي القديمة، والمميزة بالبيوت المطلية بالجير الأبيض، والشرفات المزخرفة والمزينة بالورود، فضلا عن أبواب الخشب القديمة المفتوحة على رائحة الخبز والفلفل الأحمر وزيت الزيتون.

الأزقة هنا مثالية للمشي وللعودة بالزمن إلى القرون الوسطى والحقبة الباروكية، وتبذير بعض الأموال داخل المحلات الحرفية التي تبيع السيراميك الملون والصابون الطبيعي والحلويات اللذيذة.
وفي قلب المدينة، ترتفع كاتدرائية سانت أغاتا، التي تعود للقرن السابع عشر، وكأنها سفينة حجرية على اليابسة تنتظر الصلاة. وبين التماثيل المنحوتة ببراعة، والنقوش على النوافذ، تجد نفسك داخل حقبة تاريخية كُتبت تفاصيلها بحبر غير مرئي، لكنه لا يُمحى مع الزمن.

كما تُعتبر قلعة غاليبولي المبنية على أطراف الميناء من أهم معالم المدينة، وتحيط بها المياه من 3 جهات ويمكن التجول داخلها بتكلفة 5 يوروهات لمشاهدة المعارض الفنية، وأكشاك المصنوعات اليدوية.
تبيع بعض الأكشاك نجوم البحر المجففة بألوان الأحمر والأزرق والأصفر والأبيض، يتراوح سعرها من يورو واحد إلى 5 يوروهات للأكبر حجما، بينما تغريك أخرى بأكسسوارات مصنوعة يدويا من النحاس، وهدايا تذكارية أو حلويات بمذاق الشوكولاتة والبسكويت وزبدة الفستق.
نكهات البحر والبساطة
مرّت ساعتان من المشي دون ملل ومن التقاط الصور لإضافتها إلى الألبوم، بينما تجذب النكهات البحرية حواسك إليها لتخيُّل مذاق الوجبة التالية. فقررت الجلوس في مطعم صغير على حافة الميناء، قبل أن يتوجه نحوي الشيف ماريو العجوز، قائلا "سأقدم لك ما جلبته أمواج هذا اليوم".

ومن بعيد، كنت أشاهد نزول الصيادين من مراكبهم عند سوق السمك، بوجوه سمراء بفعل أشعة الشمس وأياد تعرف طريقها إلى الشباك دون تفكير، في حين ترتفع أصوات الباعة داعية المارين إلى كل ما هو طازج: السمك، التفاوض، وحتى الضحك والصراخ.
يخرجون من صناديقهم كل ما لذ وطاب من البحر، ويمكن الشراء منهم مباشرة ثم طبخه في مطعم محلي مقابل أجر بسيط، وهي تجربة رائعة يستحقها عشاق الطعام.
وبعد نصف ساعة من الانتظار، خرج ماريو من مطبخه وهو يحمل طبق "الغامبيري روسي"، وهو جمبري أحمر لا يشبه ما تذوقته في أسفاري الماضية، مسكوب عليه بعض من زيت الزيتون وعصير الليمون والثوم والحبق، خليط فريد من نوعه لا يمكن تفسيره.

وعند الانتهاء من السباحة في الشواطئ الصافية والمشي بين الأزقة العتيقة، لن تتردد في ختم يومك بتذوق الجيلاتو المحلي بنكهة البطيخ أو التيراميسو، ولن تؤنب السعرات الحرارية ضميرك على الإطلاق.
خيارات التنقل والإقامة
إذا كنت تفضل تجربة أصيلة فيمكنك اختيار كراء المنازل أو الشقق الخاصة في المدينة القديمة، فبعض البيوت هناك يزيد عمرها عن مئات السنين، لكن أصحابها تمكنوا من ترميمها بذوق إيطالي رفيع. أما إذا كنت ممن يفضل الراحة العصرية، فالمدينة توفر لك فنادق كثيرة تتناسب مع كل الميزانيات.
إعلان
ويُعتبر مطار برينديسي أقرب مطار إيطالي من غاليبولي (حوالي 80 كلم) أو مطار باريس (200 كلم). ومن برينديسي يمكن استخدام القطار أو تأجير سيارة، أو حجز سيارة أجرة بتكلفة 150 يورو.

أما عند الوصول إلى المدينة فلا يحتاج التنقل داخل غاليبولي إلى سيارة، لكن يُنصح بها إذا أردت زيارة واكتشاف المدن المجاورة أو الشواطئ البعيدة.
ويعتبر فصل الصيف من أفضل أوقات الزيارة للاستمتاع بموسم السباحة والحياة النشطة، خاصة بين يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول. ويتميز شهرا أبريل/نيسان ومايو/أيار بطقس ربيعي مثالي وأجواء أقل ازدحاما.
وأما في الشتاء فتصبح المدينة هادئة جدا وتغلق بعض المحلات أبوابها، لكنها تظل وجهة رومانسية لمن يبحث عن الهدوء والعزلة.

إلى لقاء آخر
غادرت غاليبولي بشعور يشبه الهدوء بعد الصخب، وراحة تشبه حالة التصالح مع الزمن قبل الذات. فهذه المدينة لا تدهشك بحجارتها، بل بسكينتها.
كانت تجربة كاملة بنقصها وجميلة من حيث لا تتجمّل. وربما لهذا السبب، تترك في مخيلتك صورة غير مثقلة بالفلاتر، بل بروح إيطالية أصيلة تجيد التواصل معك، حتى وإن كنت لا تفقه شيئا من لغتها.
غاليبولي مدينة لا تدعوك للزيارة فقط، بل للتأمل والتريث ومنح نفسك فرصة للإصغاء إلى طيور النورس بالقرب من قوارب الصيادين، وإلى النظر في وجوه الناس الذين لا يتعجلون شيئا، ويقدسون قيلولة تمنح لأجسادهم وأرواحهم الراحة لبضع ساعات في النهار.

لم تكن هذه الرحلة القصيرة محطة عابرة، بل تجربة زمنية يردد كل تفصيل فيها على مسامعي "لا حاجة للعجلة، كل شيء سيأتي في أوانه".
هي مدينة لا تُختصر بالصور أو الكلمات، بل في نكهات هادئة وصادقة، تعلمك أن الجمال ليس حكرا على الأسماء المعروفة والوجهات العالمية، بل في التفاصيل الدقيقة والمدن الصغيرة التي تمر بصمت، لكنها تترك أثرا لا يُنسى.
0 تعليق