كتب يوسف الشايب:
عبر إنتاجه المسرحي الأحدث، "المنشية"، عاد بنا المسرح الوطني الفلسطيني (الحكواتي)، إلى ما قبل أكثر من سبعة وسبعين عاماً، لنتجوّل رفقة الراوي وشخصيات العمل في أزقةٍ وحاراتٍ متخيلة من الحيّ الذي يحمل العمل اسمه، في مدينة يافا، وصولاً إلى النكبة، وما بعدها، فالاستعادة الذكيّة بتقنية "الفلاش باك" في مشهد على الخشبة هذه المرّة، دون إغفال نكبة غزة التي تُباد منذ عامين، ونكبات الفلسطينيين المتواصلة في كامل جغرافيّتهم المحتلة.
وتأتي المسرحية، في إطار مشروع "مشكال"، الممول من الاتحاد الأوروبي، وينفذ من قبل معهد غوته الألماني والمجلس الثقافي البريطاني، بالشراكة مع تجمع المؤسسات الثقافية للاتحاد الأوروبي ( EUNIC ) في فلسطين، وهو من إخراج وكتابة الباحث والمؤرخ والكاتب المسرحي والمخرج سامر الصابر، بمشاركة المخرجة مارينا جونسون.
وبالإضافة إلى الراوي، الذي جسّده باقتدار اتكأ على تلقائية الأداء المدروسة، الفنان حسام أبو عيشة، قدّمت الفنانة شادن سليم باتقان وتميّز دور "مريم" بكل تحوّلاته، فأبدعت وأمتعت وأثّرت، وهو ما كان بدرجات متفاوتة في أداء بقيّة الفنانين: ياسمين شلالدة في دور "سنيّة"، وفراس فراح في دور "مصطفى"، وفاطمة أبو علول في دور "عايشة".
وأثبت الفنان عزت النتشة، أن ما يحققه من نجاحات في أعماله المتتالية، منذ سطوعه قبل سنوات في مسرحية "أسمهان"، ليس صدفة، فقد كان "الجوكر"، أي الورقة الرابحة في العمل، عبر تقديمه عدّة أدوار، من بينها "علي" في مراحله العمرية المتعددة، و"أبو شمسية" صاحب المقولة المتكررة في كلمة واحدة ذات الدلالات متعددّة التأويل: "طارت"، و"زهران" المُناضل.
وعلى الرغم من الخطابية والسرد الإنشائي الذي لم يغادر بعض مفاصل المسرحية، إلا أن المجهود البحثي المبذول يستحق التقدير، بحيث يشكل العمل، الذي احتضن عرضه مسرح وسينماتك القصبة بمدينة رام الله، مؤخراً، ذاكرة حيّة للأجيال المتعددة حول حي المنشية في يافا، وحيوات أهلها ما قبل وأثناء النكبة وما بعدها.
ولعل المتابع للعمل برؤية الناقد، يُدرك أن ثمة خللاً ما في الدراماتورجيا، أي عملية البناء الدرامي للنص، ولكون الدراماتورجيا كفعل بناء فني يقوم بدور "الناقد الداخلي" أو "المستشار الأدبي"، بل يشكل العمود الذي يضمن التماسك الفكري والبنيوي للنص وعلاقته بالأداء، فإن "المنشية" كعمل مسرحي بدا، في أجزاء منه، مفككاً، لكنه مؤثر.
ثمة أحداث تقع بشكل عشوائي دون وجود سببية واضحة تربطها، وثمة مشاهد يمكن حذفها دون أن يتأثر العمل مطلقاً، في حين أن المشاهد النهائية أو ما قبل النهائية، والتي لربّما اعتقد القائمون على العمل أنها ما بعد حداثية، وهي ليست كذلك، سقطت فجأة على الخشبة وعبر الشاشة، دون تمهيد كافٍ، أو جسور للعبور إليها.
كما لم تخل المسرحية من إيقاع مضطرب في جزء منها، وغياب للصراع الحقيقي الجوّاني والبرّاني للشخصيات، أو ما يعرف بـ"القوس الدرامي" للشخصية، علاوة على انفصال الشكل عن المضمون أحياناً.
وكان القائمون على العمل أشاروا في كتيّبه الرقمي، إلى أن "المنشية" اعتمدت على لغة مسرحية بسيطة ومجرّدة، وإلى أنه تم الاستغناء عن معظم العناصر المادية على الخشبة، في فعل متعمّد يهدف إلى دفع الجمهور لجهة تفعيل مخيّلته، وهو ما نجح فيه العمل جزئياً، خاصة في ما يتعلق بجزئية التواصل مع الجمهور، حيث يعتمد هذا النوع من المسرح على عقد شراكة ضمنية مع الجمهور، وكأن العمل برمّته يخاطب الجمهور بأن: "سأعطيك الإشارة، وعليك أن تكمل الصورة في خيالك".
وفي وقت نجح فيه العمل الإيمائي، بدرجة ما، في ما يتعلق بالأداء التمثيلي الذي يتوجب أن يكون على درجة فائقة من الإتقان، وفي تفعيل الخيال لدى الجمهور، فإنه لم يكن موفقاً، إلى حد كبير، في الجانب الإخراجي، على مستويات عدّة تتعلق بخلق تكوينات بصرية قوية تعلق بالذاكرة، واستخدام الفضاء المسرحي، والإيقاع الصوتي البصري لجهة خلق التوتر والتحولات الدرامية.
ومع ذلك، يبقى "المنشية" عملاً مسرحياً مهماً لجهة تثبيت الرواية والهوية الوطنيّتيْن، في زمن المحو والإبادة، ليظهر كفعل مقاومة تواجه فيروس النسيان، وشبح الاستباحة، واستبداد آلة الإبادة الإسرائيلية.. يسير بين نكبتيْن أو أكثر، مُتسلحاً بالأمل بالقادم من الأيام، ومن الأجيال الفلسطينية، أحفاد أو أحفاد أحفاد المنكوبين قبل سبعة وسبعين عاماً، أو من يعيشون النكبة ويعايشونها، هذه الأيام.
0 تعليق