منذ قيامها، اعتمدت إسرائيل على منهجية الخداع كأداة لإدارة الصراع: وعود بالسلام يقابلها تمدد الاستيطان، انسحابات شكلية تتحول إلى حصار خانق، وهدن إنسانية تُستغل لشراء الوقت والمضي قدما بالخطط المرسومة.
هذا النهج لم يكن يوما عارضا، بل سياسة ثابتة هدفها تزييف الواقع أمام العالم، وتبرير مشروع السيطرة على الأرض.
واليوم، في ظل القبول الفلسطيني بمقترح هدنة لمدة ستين يوما بوساطة مصرية- قطرية، وما رافقه من رفض إسرائيلي جزئي ومناورات سياسية، يعود المشهد ليذكرنا بالمنهج ذاته: اتفاقات تُعلن ثم تُفرغ من مضمونها، بينما تتواصل معاناة المدنيين وسط تحذيرات من مجاعة وتهديد للبقاء.
وعلى وقع انتفاضة احتجاجية غير مسبوقة داخل إسرائيل نفسها، ومع اتساع الحراك الدولي المطالب بوقف الحرب، يظل السؤال مطروحا: هل تمضي هذه الجولة نحو تغيير حقيقي، أم إن السياق يعيد إنتاج ذاته، لتتكرر اللعبة القديمة من جديد؟
ومن هنا، يسعى هذا المقال إلى تفكيك أنماط الخداع الإسرائيلية وأشكالها المتجددة في سياق الحرب الراهنة، وتحليل حدود هذه الإستراتيجية التي تحولت من أداة ناجحة ظاهريا إلى فخ سياسي وأخلاقي يطارد الاحتلال نفسه، وصولا إلى استشراف دور الحراك الشعبي والدولي الحالي- من الشارع الإسرائيلي إلى العواصم الغربية والوسطاء الإقليميين- في كسر الحلقة المفرغة وفتح أفق مختلف لوقف نزيف الدم والمعاناة.
من أوسلو إلى كذبة الانسحاب من القطاع: وعود سلام زائفة
منذ عقود، استخدمت إسرائيل المفاوضات واتفاقيات السلام كواجهة دبلوماسية تخفي وراءها سياسات التوسع والتهجير على الأرض. ففي اتفاقية أوسلو 1993، وُعد الفلسطينيون بحق تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة بعد خمس سنوات، لكن على الأرض استغلت تل أبيب الاتفاق لتكريس الأمر الواقع.
فقد تضاعف الاستيطان نحو أربع مرات منذ أوسلو؛ إذ كان في 1992 حوالي 172 مستوطنة يقطنها قرابة 248 ألف مستوطن، ليقفز بحلول 2023 إلى نحو 444 مستوطنة وبؤرة يقطنها حوالي 950 ألف مستوطن.
إعلان
ويقر الخبراء بأن أكبر أخطاء أوسلو كان غياب نص صريح يُلزم إسرائيل بوقف الاستيطان، ما أتاح لها فرض حقائق جديدة على الأرض.
وفوق ذلك، جرى ترحيل القضايا الجوهرية إلى مفاوضات الحل النهائي، مثل القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات والأمن، وهو ما منح إسرائيل فسحة زمنية لتكريس سيطرتها.
فبدلا من معالجة قضية اللاجئين بجدية، جرى الالتفاف عليها عبر استهداف وكالة الأونروا وتصويرها كمنظمة "محظورة"، في محاولة لشطب صفة اللاجئ وحق العودة من المعادلة، فيما تسارع التهويد في القدس، واحتُكرت مصادر المياه، وأُبقيت الحدود والمعابر تحت السيطرة الإسرائيلية.
وهكذا تحولت الملفات التي كان يُفترض أن تفتح أفقا لحل عادل، إلى أدوات مماطلة ضاعفت من اختلال ميزان القوى ورسخت مشروع الضم والهيمنة.
وفي السياق ذاته، جاء انسحاب غزة 2005 كواحد من أبرز مسرحيات الخداع. فقد قدمته إسرائيل للعالم كخطوة "نحو السلام" أو "فك ارتباط"، بينما كان الهدف الحقيقي إعادة صياغة السيطرة: انسحاب الجيش من داخل القطاع مقابل إحكام الطوق من خارجه، بالسيطرة على المعابر والجو والبحر، وفرض حصار خانق جعل غزة أكبر سجن مفتوح في العالم.
وبعد فوز حركة حماس بالانتخابات 2006 وتوليها الحكم، تحول هذا "الانسحاب" إلى حصار كامل منذ 2007، استُخدم كعقاب جماعي للسكان وأداة ضغط سياسي تحت ذرائع أمنية.
الخداع العسكري: مناطق آمنة تتحول إلى مصائد موت
على الصعيد الميداني، اتبعت إسرائيل تكتيكات خداع عسكرية تقوم على إيهام السكان بوجود "مناطق آمنة" ثم قصفها، أو الدعوة إلى الإخلاء نحو الجنوب ليُكتشف لاحقا أن القصف يلاحق النازحين حيثما ذهبوا.
كما استُخدمت سياسة الأرض المحروقة لنسف أحياء كاملة، ثم جرى الترويج لفتح "ممرات إنسانية" لا تلبث أن تتحول إلى مساحات مستهدفة. بهذا، يصبح الحديث عن حماية المدنيين جزءا من أدوات الحرب نفسها، وسلاحا دعائيا يُضاف إلى ترسانة الاحتلال.
خطة احتلال غزة تحت ستار المساعدات الإنسانية
في الأيام الأخيرة، ومع الهجوم المدمر على حي الزيتون، برزت فكرة "مدينة الخيام" قرب رفح كخطة جديدة تُسوَق كإغاثة إنسانية، لكنها في الواقع تمهيد لتهجير جماعي منظم.
وقد صرح نتنياهو بأن هدفه إعادة رسم المشهد الديمغرافي لغزة بما يخدم مشروع "إسرائيل الكبرى"، وهو ما يتقاطع مباشرة مع خطة الخيام التي تهدف إلى حشر مئات الآلاف في الجنوب؛ تمهيدا لإفراغ الشمال والسيطرة عليه.
وهكذا، يتضح أن ما يُقدم على أنه مبادرة إنسانية ليس إلا حلقة إضافية في مسلسل الخداع الإسرائيلي الذي يستخدم أدوات الإغاثة لتغطية مشاريع توسعية واستيطانية أعمق.
شعار "تحرير غزة من حماس" لتبرير التهجير
روجت القيادة الإسرائيلية لرواية إعلامية مفادها أن هدف الحرب هو "تحرير غزة من حكم حماس" وليس إعادة احتلالها. فقد كرر نتنياهو أن إسرائيل لا تسعى لاحتلال القطاع بل لإنهاء حكم حماس وتحرير السكان من "إرهابها"، زاعما أن الحرب ستتوقف فور استسلام الحركة وإفراجها عن الأسرى والمحتجزين.
هذا الخطاب صُمم لتجميل صورة الحرب أمام الرأي العام الدولي، وإظهار الجيش كأنه يقاتل من أجل الفلسطينيين أنفسهم.
غير أن الحقيقة في هذا الخطاب هي ذروة التضليل. فحركة حماس ردت بأن الحديث عن "التحرير" ليس إلا خداعا مفضوحا يهدف إلى إخفاء النوايا الحقيقية: التهجير القسري، تدمير مقومات الحياة في غزة، وتنصيب سلطة تابعة لإسرائيل.
إعلان
وأكدت أن استخدام مصطلح "التحرير" محاولة لقلب حقيقة الاحتلال وفق القانون الدولي، وأن جرائم الإبادة والتجويع الممنهجة تكشف زيف هذه الرواية.
وتتضح التناقضات أكثر من خلال تصريحات نتنياهو نفسه، حين أقر أن خطته تتضمن إقامة إدارة مدنية جديدة في غزة بعد هزيمة حماس، شرط ألا تكون تابعة للحركة أو حتى للسلطة الفلسطينية. وهذا يعني عمليا فرض ترتيب سياسي يخضع لسيطرة إسرائيل غير المباشرة، أي احتلال بحلة جديدة.
وعلى الأرض، استُهدف المدنيون، المستشفيات، المدارس والأسواق بذريعة ملاحقة المقاومة، ما جعل شعار "التحرير" مجرد ستار لفظي للتغطية على حقيقة المشروع الإسرائيلي: إزالة حكم حماس وفرض وصاية أمنية طويلة الأمد على غزة، من دون تحمل تبعات الاحتلال المباشر.
مسرحيات إنسانية تحت الضغط الدولي
مع تفاقم صور الدمار في غزة وتصاعد المظاهرات والانتقادات الدولية، وجدت إسرائيل نفسها في عزلة نسبية غير مسبوقة. وتحت هذا الضغط، لجأت إلى خطوات شكلية كإعلان "هدن إنسانية" أو فتح ممرات آمنة، لكنها كثيرا ما قصفتها أو جعلت المرور عبرها شبه مستحيل.
كما سمحت بدخول مساعدات محدودة، بينما أكدت تقارير أممية استمرار النقص الحاد وانتشار الجوع، في وقت أُلقيت فيه بعض المساعدات عمدا في مناطق خطرة أو في البحر.
ومن أبرز هذه "المسرحيات" الإنزال الجوي لمؤن غذائية محدودة، التي رُوجت كدليل على الاستجابة الإنسانية، لكنها لم تكن سوى دعاية: كمية هزيلة وخطورة أوقعت إصابات بين المدنيين. هكذا يتضح أن إسرائيل تتعامل مع الضغط الدولي بمنطق العلاقات العامة لا بتغيير السياسات، فهي تُكثِر من التصريحات واللجان والوعود أمام الكاميرات، بينما تواصل حربها بلا توقف.
وما إن يخفت الضغط حتى تعود آلة الحرب إلى أقصى قوتها، وقد صرح نتنياهو بوضوح أن الحرب لن تنتهي قبل "هزيمة حماس" كاملة، لتتحول الهدن والمساعدات إلى أدوات تكتيكية لكسب الوقت وتخفيف الضغط، فيما يبقى الهدف الإستراتيجي ثابتا: مواصلة العمليات حتى تحقيق المشروع الإسرائيلي.
الخداع القانوني: قلب الحقائق وتزييف الخطاب
لم يقتصر التضليل الإسرائيلي على الميدان، بل امتد إلى الساحة القانونية والإعلامية. فباسم "الدفاع عن النفس" جرى تبرير عمليات إبادة وتهجير قسري، وبشعار "التحرير" جرى قلب حقيقة الاحتلال رأسا على عقب.
وقد سعت الحكومة الإسرائيلية إلى إخفاء جرائمها عبر خطاب مزدوج: إنساني أمام العالم، وعدواني في الميدان، لتبدو وكأنها الضحية، بينما تمارس أوسع الانتهاكات ضد المدنيين.
هذا الاستخدام المتعمد للغة القانون الدولي، وتحويلها إلى أداة تضليل، يشكل أحد أبرز مظاهر الخداع. وحتى في تسمية جيشها بـ"جيش الدفاع"، تحاول إسرائيل أن تضفي على نفسها غطاء قانونيا، مستندة إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بحق الدفاع عن النفس، في حين أن ممارساتها تمثل في جوهرها اعتداء واحتلالا مستمرين.
والمفارقة الصارخة أن داني دانون، مندوبها السابق في الأمم المتحدة، لم يتردد في تمزيق نسخة من الميثاق الأممي ذاته أمام قاعة المنظمة الدولية، في مشهد يجسد الاستخفاف بأبسط قواعد الشرعية الدولية، ويكشف حقيقة الخطاب الإسرائيلي: احترام شكلي للميثاق حين يخدم مصالحها، وازدراء علني له حين يُقيدها.
الضغط الداخلي وصفقات الأسرى والمحتجزين المؤجَلة
يواجه نتنياهو أزمة داخلية متصاعدة تتعلق بخسائر الحرب البشرية وملف الأسرى والمحتجزين لدى حماس. ورغم الدعم الشعبي الواسع عقب عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإن طول أمد الحرب وكلفتها العالية أحدثا شرخا في الإجماع الداخلي، تجلى خصوصا في حراك عائلات الأسرى والمحتجزين الذين انتقدوا تباطؤ الحكومة ونظموا اعتصامات للضغط باتجاه صفقات تبادل.
تحت هذا الضغط، بدت الحكومة أحيانا مستعدة لتليين موقفها، كما حدث في هدنة نهاية 2023 التي أُطلق خلالها سراح أسرى من الجانبين. لكن هذه الصفقة ظلت محدودة وسرعان ما تلتها عودة القتال بإجرام أشد. ومنذ ذلك الحين، تكررت الأنباء عن مفاوضات متقطعة عبر وسطاء، لكنها كانت تنتهي بتراجع مفاجئ من جانب نتنياهو.
إعلان
ويرى مراقبون أن نتنياهو يتعامل مع ملف الأسرى والمحتجزين كورقة سياسية لا إنسانية، معتمدا المماطلة والمراوغة لأسباب متعددة: تفادي المحاسبة على إخفاقات حكومته، الحفاظ على تماسك ائتلافه اليميني المتشدد الرافض أي تنازل، السعي وراء صورة نصر عسكري قبل أي صفقة، واستغلال المفاوضات كغطاء لانتزاع تنازلات أو لكسب الوقت.
كما أن استمرار الحرب يجمد الحياة السياسية الداخلية ويؤجل المطالب بانتخابات مبكرة أو لجان تحقيق.
نتيجة لهذه العوامل، رأينا نتنياهو مرارا يلوح باقتراب صفقة ثم يتراجع عنها في اللحظة الأخيرة. هذا النهج أثار غضب عائلات الأسرى والمحتجزين التي اتهمت الحكومة بالتضحية بأبنائهم لحسابات سياسية. وبرغم السخط الشعبي، يحاول نتنياهو إقناع الإسرائيليين بأن التصعيد العسكري وحده كفيل بإعادة الأسرى والمحتجزين وتأمين المستقبل.
إنها مقامرة سياسية يخوضها للهروب من أزماته الداخلية، لكنه يغامر في الوقت نفسه بثقة جمهوره وبحياة الأسرى والمحتجزين عبر عرقلة الحلول التفاوضية الممكنة.
هل تستمر منهجية الخداع؟
مع دخول الحرب على غزة شهرها الثاني والعشرين، بات واضحا أن منهجية الخداع الإسرائيلية تواجه اختبارات صعبة على كل المستويات. فعلى الصعيد الدولي، بدأ صبر العالم ينفد أمام صور الدمار والمجازر، وصدرَت قرارات أممية تطالب بوقف إطلاق النار ورفع الحصار، فيما باتت التحقيقات الدولية في جرائم الحرب قيدا متزايدا على قادة إسرائيل.
داخليا، لم يعد الوضع مريحا لنتنياهو. فبينما تهيمن الأجواء المتطرفة، برزت أصوات عسكرية وسياسية تحذر من مخاطر التورط في احتلال طويل الأمد وما يترتب عليه من مسؤوليات إنسانية وخسائر فادحة بلا نصر حاسم. اقتصاديا واجتماعيا، تتعرض إسرائيل لاستنزاف متزايد: تضخمت ميزانية الدفاع على حساب الخدمات، وتراجع الاستثمار والسياحة، فيما يعيش جزء من السكان في الملاجئ تحت تهديد الصواريخ.
ومع طول أمد الحرب، قد يتحول الالتفاف الشعبي إلى مساءلة قاسية إذا تبين أن الوعود بالنصر السريع لم تتحقق.
أما على الجانب الفلسطيني، فقد أحبط الصمود الشعبي والميداني الرهان الإسرائيلي على النزوح الجماعي. ورغم الفارق الكبير في القدرات، واصل الفلسطينيون تسطير معاني الصبر والصمود ما حال دون تحقيق إسرائيل إنجازاتها الموعودة.
في المحصلة، تبدو هذه المنهجية الإسرائيلية في مأزق عميق. قد تمنح قادتها مكاسب تكتيكية آنية، لكنها عاجزة عن صياغة حل إستراتيجي للصراع.
فالمجتمع الدولي لم يعد يبتلع روايات الاحتلال، والفلسطينيون لم ينصاعوا لمخططات التهجير، والجبهة الداخلية الإسرائيلية نفسها تهتز تحت وطأة الخسائر وتراجع الثقة بقيادتها.
إن الإيهام بالمساعدات أو التلويح بصفقات واهية قد يخدع مرة أو مرتين، لكن الحقيقة سرعان ما تنكشف مع استمرار القصف والحصار.
إن المضي في هذا النهج لا يقود إلا إلى مزيد من العزلة الدولية، وتصدع الداخل الإسرائيلي، وإلى صعود مقاومة أكثر صلابة وإصرارا.
وكما أثبت التاريخ، لا يمكن لمنهجية قائمة على الخداع أن تصنع أمنا أو نصرا، بل تفتح الباب أمام أجيال أشد قوة وأرسخ تمسكا بحقوقها. جيل يكتب بدمه وفدائه استمرار مسيرة التحرر.
إن التاريخ يعيد نفسه، لكنه في كل مرة يضيف إلى الشعب الفلسطيني صلابة جديدة وإيمانا أعمق بعدالة قضيته، فيما يخسر الاحتلال آخر ما تبقى من شرعية وزيف روايته.
ومن هنا، يصبح مطلوبا تركيز الجهود على ثلاثة مسارات متوازية: تعزيز التوثيق القانوني لجرائم الاحتلال، تكثيف الضغط الشعبي والدبلوماسي لعزله، والاستثمار في وحدة الصف الفلسطيني كحائط صد أمام مشاريع التهجير والتضليل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق