تشير حركة الصفقات الاقتصادية الكبرى إلى أن هناك ديناميكية فريدة تميز الأسواق الإقليمية عن غيرها، ففي الوقت الذي خيم فيه شبح عدم اليقين على الاقتصادات الغربية، نتيجة للتوترات الجيوسياسية وارتفاع تكاليف رأس المال، ظل نشاط الاندماج والاستحواذ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في نمو مستمر.
وتأتي دولة الإمارات في صدارة هذا المشهد، لتؤكد أن اقتصادها لا يكتفي بالصمود، بل يتجاوز التحديات ليحقق ازدهاراً ملحوظاً. فما هي العوامل التي أسهمت في هذا الأداء الاستثنائي؟ وكيف تمكنت الإمارات من ترسيخ مكانتها كوجهة جاذبة للاستثمارات حتى في ظل "الضباب الاقتصادي" العالمي؟
وفقاً لأحدث تقرير من "إرنست آند يونغ" بعنوان "رؤى الاندماج والاستحواذ في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، شهدت المنطقة زخماً كبيراً في النصف الأول من عام 2025. فقد وصل عدد الصفقات إلى 425 صفقة بقيمة إجمالية بلغت 58.7 مليار دولار، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 31 بالمئة في عدد الصفقات و19بالمئة في قيمتها مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024.
وأكد التقرير أن هذا الأداء الإيجابي مدفوع بشكل أساسي بالإصلاحات التنظيمية والتحولات في السياسات التي تشهدها المنطقة وتحسن التوقعات الاقتصادية الكلية.
الإمارات مغناطيس رأس المال العالمي
وقد تصدرت دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية هذا المشهد الاستثماري، حيث استقطبتا معا استثمارات بقيمة 27.9 مليار دولار في النصف الأول من العام.
ويشير التقرير إلى أن الإمارات على وجه الخصوص كانت "مغناطيساً لرأس المال العالمي"، مدعومة بإطارها التنظيمي المستقر وتركيزها على التنويع الاقتصادي.
ويبرز دور الإمارات الريادي بشكل خاص في الصفقات الوافدة (Inbound M&A)، حيث ارتفع هذا النشاط بنسبة 53 بالمئة من حيث العدد، بينما كانت الإمارات الوجهة الرئيسية، مستحوذة على 50 بالمئة من إجمالي عدد الصفقات الوافدة و98 بالمئة من قيمتها الإجمالية التي وصلت إلى 21.5 مليار دولار في النصف الأول من عام 2025.
ولم يقتصر الدور الإماراتي على جذب الاستثمارات، بل امتد إلى الصفقات الخارجية (Outbound)، حيث بلغ النشاط الخارجي 126 صفقة بقيمة 24.4 مليار دولار، وشكلت الإمارات والسعودية معاً 87 بالمئة من القيمة الخارجية، بدعم من الكيانات المرتبطة بالحكومة وصناديق الثروة السيادية التي تلعب دوراً محورياً.
كما سلط التقرير الضوء على الدور المحوري للكيانات الحكومية وصناديق الثروة السيادية في المنطقة، مثل جهاز أبوظبي للاستثمار، وصندوق الاستثمارات العامة السعودي، ومبادلة، التي ساهمت بنحو 21 مليار دولار في قيمة الصفقات عبر 54 صفقة. وقد استهدفت هذه الصناديق قطاعات رئيسية مثل الكيماويات والتكنولوجيا والصناعات، مما يؤكد التوافق مع أهداف التنويع الاقتصادي طويلة الأجل لهذه الدول.
ويشير التقرير إلى أن الصفقات عبر الحدود (Cross-border M&A) وصلت إلى أعلى مستوى لها في خمس سنوات، حيث استحوذت على 55 بالمئة من عدد الصفقات و78 بالمئة من قيمتها الإجمالية التي بلغت 45.9 مليار دولار، مع هيمنة قطاعي الكيماويات والتكنولوجيا على 67 بالمئة من قيمة هذه الصفقات.
وتُعد صفقات كبرى مثل استحواذ "بورياليس إيه جي" و"أو إم في إيه جي" على حصة في "بروج بي إل سي" بقيمة 16.5 مليار دولار، واستحواذ "أدنوك" و"أو إم في إيه جي" على "نوفا كيميكالز" الكندية، مثالاً بارزاً على هذا النشاط المكثف الذي يعكس ثقة المستثمرين في الأسس طويلة الأجل للمنطقة.
السر يكمن في مزيج من العوامل الاقتصادية والتنظيمية
من الإمارات يقول الخبير الاقتصادي حسين القمزي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "رغم حالة الضبابية الاقتصادية التي تكتنف الأسواق العالمية وركود نشاط الاندماجات والاستحواذات في أوروبا وأميركا بسبب ارتفاع أسعار الفائدة وتشديد الجهات الرقابية، تبرز الإمارات كاستثناء لافت. فقد شهدت الدولة خلال العام الماضي نمواً متسارعاً في صفقات الاندماج والاستحواذ، ما جعلها نقطة مضيئة في سوق يعاني عالمياً".
وأكد أن السر يكمن في مزيج من العوامل الاقتصادية والتنظيمية. فمن جهة، عززت الأساسيات القوية للاقتصاد الإماراتي – مثل نمو القطاعات غير النفطية بنسبة فاقت 6 بالمئة في 2023، وتدفق عوائد الطاقة والسيولة السيادية – قدرة الشركات على تمويل صفقات كبرى. ومن جهة أخرى، وفرت الإصلاحات الحكومية مثل تحرير الملكية الأجنبية وغياب ضريبة الأرباح الرأسمالية بيئة قانونية جاذبة للمستثمرين الدوليين.
وأشار القمزي إلى أن هذا الزخم لم يكن ممكناً دون الدور المحوري الذي لعبته الصناديق السيادية، التي تحولت إلى لاعب رئيسي في أسواق الصفقات:
هذه الأمثلة تؤكد أن رأس المال السيادي أصبح صانعاً لصفقات كبرى تعيد رسم خريطة القطاعات محلياً ودولياً، بحسب القمزي، الذي أشار إلى أنه في المقابل، لعبت شركات القطاع الخاص دوراً متزايد الأهمية، خاصة في التكنولوجيا والاتصالات والخدمات المالية:
مجموعة &e (اتصالات سابقاً) استحوذت على 50 بالمئة بالمئة من منصة كريم للتوصيل مقابل 400 مليون دولار، كما توسعت في أوروبا الوسطى بشراء أصول اتصالات من مجموعة PPF بقيمة 2.3 مليار دولار. Noon للتجارة الإلكترونية عززت مكانتها عبر الاستحواذ على منصة الأزياء Namshi بقيمة 335 مليون دولار، ما يعكس التوجه نحو الدمج لخلق كيانات قادرة على مواجهة المنافسة العالمية. في القطاع المالي، استثمرت شركة شيميرا كابيتال بأبوظبي 200 مليون دولار مقابل 20 بالمئة من منصة التكنولوجيا المالية المصرية إم إن تي حالا، في خطوة تعكس توسع رؤوس الأموال الإماراتية نحو أسواق ناشئة.وهذا يعيدنا لسؤال مهم، لماذا تنمو الصفقات في الإمارات رغم التراجع العالمي؟
الخبير الاقتصادي القمزي يجيب على التساؤل بثلاث نقاط هي:
وفرة السيولة: الفوائض النفطية ورؤوس الأموال السيادية وفرت تمويلاً ضخماً. مرونة السياسات: بيئة تنظيمية متطورة وضرائب منخفضة مقارنة بالغرب. رؤية استراتيجية: الإمارات لا تنظر للصفقات كاستثمارات مالية فحسب، بل كأدوات لتوطين التكنولوجيا، تأمين الغذاء والطاقة، وتعزيز موقعها كمركز أعمال عالمي.ويبدو أن دولة الإمارات قد نجحت في تحويل التقلبات العالمية إلى فرص توسع استراتيجية، مما يعزز مكانتها كأحد أبرز مراكز الاستثمار والصفقات عالمياً، طبقاً لما قاله القمزي.
بدوره، يرى الخبير الاقتصادي علي حمودي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن التوقعات لمنطقة الشرق الأوسط لا تزال إيجابية فيما يتعلق بنشاط عمليات الدمج والاستحواذ الإقليمية والدولية، وذلك بفضل ما شهده عام 2024 من زيادات ملحوظة في الصفقات العابرة للحدود والمحلية.
صناديق الثروة السيادية والكيانات المرتبطة بالحكومة تقود سوق الاستحواذ
وأضاف: "وكما في السنوات السابقة، قادت صناديق الثروة السيادية والكيانات المرتبطة بالحكومة هذا النشاط، لا سيما في دولة الإمارات مما عزز مكانة الإمارات والمنطقة كلاعب رئيسي في سوق الدمج والاستحواذ العالمي. ومن المرجح أن يستمر قطاع إبرام الصفقات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الازدهار في عام 2025، مما يعكس ثقة المستثمرين في أساسيات المنطقة على المدى الطويل".
وأوضح حمودي أن استقرار أسعار النفط، والتطوير المستمر للبنية التحتية، والتركيز الاستراتيجي على التكنولوجيا والكيماويات والصناعات، كلها عوامل تُرسي أسساً متينة لنشاط مستدام، متوقعاً مع تقدم العام، اشتداد المنافسة على الأصول عالية الجودة، لا سيما تلك التي تتوافق مع أجندات التحول الوطني وتقدم قيمة استراتيجية تتجاوز العوائد المالية.
وذكر الخبير الاقتصادي حمودي أن استحواذ دولة الإمارات حتى الآن هذا العام على 50 بالمئة من حجم الصفقات الواردة و98 بالمئة من إجمالي القيمة الواردة، عزز دورها كوجهة رئيسية لرأس المال الأجنبي في المنطقة، ومع استمرار تطور البيئات التنظيمية وتحسن استقرار الاقتصاد الكلي، يتوقع حمودي أن يظل قطاع إبرام الصفقات في دولة الإمارات والمنطقة قوياً حتى نهاية النصف الثاني من هذا العام.
0 تعليق