غزة- تجتمع على السكان في قطاع غزة "في آب اللهاب"، كما تصفه الأمثال، نار الحر ونار الحرب، في بيوت مظلمة مستعرة بسبب عدم وجود الكهرباء، وتحت خيام ملتهبة كأنها زفرات براكين.
تهفو القلوب والنفوس في مثل هذه الأجواء القاسية إلى كأس ماء أو مرطب بارد يذهب الظمأ ويروي العطش وينعش الروح.
ورغم شح هذا الأمر وربما غرابة وجوده في مثل هذه الأجواء الصعبة، فإن حاجة الناس إليه تدفعهم للبحث عن وسائل لتوفيره، مهما بدا ذلك صعبا ومتعسرا.
وتحاول محلات حمادة في منطقة النصيرات تقديم جزء من الحل، إذ يتجمع حولها المئات للحصول على كأس من "البرّاد الحلو المثلج" (عصائر تحل بالماء وتثلج) الذي يخفف عنهم وطأة الحر والعطش.
يطفئ الظمأ والحر
تقول خلود، وهي تنتظر دورها في الطابور لشراء البرّاد لها ولأولادها وبناتها، إنها تأتي في كل يوم، تأتي إلى هنا وتشتري البراد، فقد صار طريقهم الوحيد لري العطش وسط الحر وضيق الحال، وتحاول مع أولادها قدر الإمكان التعايش مع هذه الظروف الصعبة القاهرة في ظل الحرب.
وتضيف للجزيرة نت الأولاد تعودوا عليه وأصبح عادتهم اليومية، وتتابع "نخرج للتخفيف عن أنفسنا من لهيب الخيمة وحرارة الماء في البراميل، فنحن عندما نحتاج إلى شرب الماء وري عطشنا نجد أنفسنا وكأننا نشرب ماء مغليا من شدة الحرارة".
يباع كأس البراد الواحد اليوم بما يعادل دولارا ونصفا بعد أن كان يباع بربع دولار قبل الحرب، مما يجعل أي أسرة بسيطة تحتاج إلى مبلغ يتراوح بين 11 و 12 دولارا يوميا لشراء بعض كؤوس البراد.

وبحسب صاحب محلات حمادة للمرطبات بسام حمادة، فإن محله إلى جانب السوبرماركت الكبير الملاصق له قد تم تدميرهما بالكامل في الأشهر الأولى من الحرب، مما تسبب لهم في خسارة فادحة على المستوى الاقتصادي، إضافة إلى فقدان كثير من العمال مصدر رزقهم.
إعلان
وأشار حمادة في حديثه للجزيرة نت إلى أنه جاهد لإعادة محله إلى الحياة مرة أخرى عبر توفير المياه الباردة والمرطبات، وقال "إن سبب غلاء كأس البراد يرجع إلى غلاء مكوناته، وخاصة مادة السكر والمواد الحافظة والليمون".
وأضاف "نحن كباعة لا نملك خيارا، فالأسعار في الحرب ترتفع يوما بعد آخر، وإذا بعنا بسعر أقل فلن نتمكن من تغطية التكلفة، الناس يظنون أننا نبالغ، لكن الحقيقة أن سعر السكر تضاعف، والليمون صار نادرا وغاليا جدا. حتى الأكياس والأكواب البلاستيكية ارتفع ثمنها".
وتابع "نحن بين نارين: إما أن نتوقف عن العمل ونغلق المحل، أو نرفع السعر بما يتناسب مع السوق والقدرة الشرائية للمواطنين لتغطية التكاليف وأجور العمال".
لطالما كان كأس البراد في غزة مشروب الفقراء البسيط، متعة الأطفال وبهجتهم، وملجأ الكبار في الصيف، وها هو اليوم يعود أكثر إلحاحا رغم ارتفاع سعره، ليصبح مطلبا ضروريا لري عطش الناس وظمئهم.

مشروع للاكتفاء
في قاعة صغيرة أسفل بيته، يقيم عمرو المجدلاوي مشروعه الصغير، حيث يضع عددا من الثلاجات التي تعمل بالطاقة البديلة (الخلايا الشمسية)، ويملؤها بأكياس مياه الشرب وأكياس البراد الذي يصنعه باحتراف لتبريدها وتحويلها إلى مثلجات، ثم يحملها في حافظة كبيرة لبيعها في الأسواق أو أماكن النزوح وقرب الخيام.
لا يحتاج المجدلاوي إلى كثير من الوقت لبيع كمياته من أكياس الماء المثلج أو البراد المنعش، يكفيه أقل من ساعة لتصريف وبيع أكبر كمية مهما بلغت، نتيجة تسابق المواطنين لشرائها.
ويصف للجزيرة نت معاناة الناس بقوله "لقد أصبح كيس الماء البارد أو كيس البراد المثلج في غزة أشبه بكنز صغير، يطفئ ظمأ المواطنين ويعيد لهم شيئا من الانتعاش وسط الحر الخانق، كأنه ضرورة يومية لا غنى عنها، حتى بات رمزا بسيطا للحياة في وقت يزداد فيه الحر والعطش والمعاناة".
ويقول معلقا على الأسعار "بحسبة بسيطة فإن 500 لتر من مياه الشرب الحلوة يبلغ ثمنها 45 دولارا تكفي لتعبئة كيلوغرام واحد من أكياس النايلون المخصصة، أي حوالي 560 كيسا بنحو 85 دولارا، ويضاف إليها 9 دولارات بدل مصاريف تشغيلية وأتعاب، فيكون المجموع نحو131 دولارا".
وإذا بيعت الأكياس جميعا بمبلغ شيكل واحد (أقل من ربع دولار)، فإن المجموع يساوي 560 شيكلا نحو (165 دولارا)، أي بصافي ربح يومي يبلغ (35 دولارا)، وهي مبلغ مشجع لأصحاب مثل هذه المشاريع للاستمرار فيها.

تسد الحاجة
"ارو عطشك، طف نارك، برد على قلبك بشيكل واحد"، بهذه العبارات كان ينادي الشاب العشريني فراس وهو يتجول في سوق النصيرات بثلاجته الصغيرة التي يضع فيها كمية من أكياس المياه المثلجة.
رافقناه وراقبناه وهو يبيعها، وما هي إلا دقائق معدودة حتى نفدت الكمية كلها، وقبل أن يغادر، سألناه عن خطوته التالية، فقال للجزيرة نت "سأذهب لإحضار كمية أخرى وبيعها. الحمد لله الأمور ماشية تمام (تسير على ما يرام)، هذه رزقتي ومصدر دخلي في الحرب، وكل التعب والإرهاق والوقوف تحت أشعة الشمس الحارقة يهون من أجل توفير بعض الطعام البسيط لعائلتي".

وتنتشر في النصيرات مشاريع تبريد المياه عبر الطاقة البديلة، فعلى سبيل المثال يشتري فراس بالجملة كل 100 كيس بـ80 شيكلا (25 دولارا)، ويبيع بين 150 و200 كيس يوميا بسعر شيكل واحد للكيس، متنقلا بين السوق وخيام النازحين، ليكسب ما بين 30 و40 شيكلا (9 – 12 دولارا) في اليوم الواحد، حسب قوله.
إعلان
وخلال جولة الجزيرة نت في سوق النصيرات وخيام النازحين، لاحظنا انتشار ظاهرة بيع البراد والمياه المثلجة بكثرة.
كما شاهدنا الكثير من الأطفال والشباب يحملون ثلاجات وحافظات صغيرة مملوءة بأكياس البراد والمياه وهم يتجولون لبيعها، في ظل إقبال المواطنين الكبير على شرائها، بسبب انقطاع الكهرباء، وعدم وجود مياه باردة في المنازل والخيام، إضافة إلى شدة الحرارة والرطوبة والعطش بسبب الحركة الدائمة للمواطنين الباحثين عن لقمة عيشهم وتدبير حياتهم.
0 تعليق