"الجزيرة نت" ترصد أغرب وقائع الغش العلمي - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

إحدى الممارسات الشائعة في عالم "مافيا" مصانع الأوراق البحثية هي أن يُفاجأ بعض الباحثين بإضافة أسمائهم عن طريق الصدفة إلى قائمة مؤلفي أحد الأبحاث.

وعادة ما يكون هؤلاء الباحثون من جامعات عريقة، ويهدف هذا الأسلوب إلى منح البحث الذي أعده باحثون أقل خبرة وانتماء لجامعات غير مشهورة، نوعا من المصداقية العلمية.

ولكن الجديد الذي فوجئ به البروفيسور المصري بجامعة تشونغ تشنغ الوطنية بتايوان د. محمد شعبان، المتخصص في الهندسة الكهربائية، أنه أصبح المؤلف الوحيد لبحث لم يكتبه.

وتلقى شعبان، وهو من الناشطين في مكافحة ظاهرة مصانع الأوراق البحثية، رسالة على بريده الإلكتروني الجامعي من مجلة "ريزولتس إن إنجينيرينج" تُعلمه بقبول التعديلات التي أجراها على بحثه، وأن البحث أصبح متاحا على موقع المجلة الإلكتروني.

وكان ذلك صادما له، لأنه لم يقدم أي بحث لتلك المجلة أساسا، والأمر الأكثر إثارة للدهشة أن المجلة من مجلات التصنيف الأول (كيو 1) وذات معامل تأثير مرتفع يصل إلى 7.9.

ولم يجد الباحث تفسيرا لهذه المفارقة غير المسبوقة سوى ما كتبه في تعليق على صفحته بموقع "فيسبوك"، متوقعا أن أحدهم ربما يريد توريطه في بحث مليء بالأخطاء، ليتم سحبه لاحقا.

تطرح هذه الواقعة العديد من التساؤلات المهمة: كيف تمكن البحث من الوصول إلى النشر في مجلة من التصنيف الأول وذات معامل تأثير مرتفع؟ وهل أصبح معامل التأثير معيارا غير دقيق لتقييم جودة المجلات البحثية؟ وكيف يمكن مواجهة ظاهرة مصانع الأوراق البحثية بحلول عملية وجادة؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيب عليها البروفسور شعبان في مقابلة خاصة مع "الجزيرة نت".

البروفيسور المصري بجامعة تشونغ تشنغ الوطنية في تايوان، الدكتور محمد شعبان، (محمد شعبان)
البروفيسور المصري بجامعة تشونغ تشنغ الوطنية في تايوان الدكتور محمد شعبان (محمد شعبان)

مشكلة المؤلف الرئيسي

بداية: استوقفنا أن الرسالة التي وصلتكم من المجلة عبر البريد الإلكتروني للجامعة، كانت على ما يبدو في المراحل الأخير لنشر البحث، فكيف تمت المراحل السابقة على هذه الرسالة؟

الأمر أبسط ما يكون، فالشخص الذي انتحل شخصيتي، قام بإنشاء بريد إلكتروني جديد يحمل اسمي، وتواصل به مع المجلة، في مراحل تسليم البحث وتنفيذ التعديلات التي يطلبها المحررون، ثم في المراحل الأخيرة طلب منهم إضافة البريد الإلكتروني الخاص بي بالجامعة "وهذا أمر ليس به أي مشكلة".

إعلان

تلقيت أنا الرسالة الأخيرة قبل النشر، وظل هو أيضا متابعا لأي تواصل سيحدث بيني وبين المجلة، لأن المجلة عادة عندما سترسل لي أي رسالة سترسلها على البريدين المتاحين لديها، البريد الخاص بمنتحل شخصيتي، والبريد الخاص بالجامعة.

وماذا فعلت بعد تلقيك البريد الذي يعلمك بإتاحة البحث على الموقع الإلكتروني للمجلة؟

بعد لحظات من الصدمة والارتباك، بدأت في استيعاب ما حدث، ودخلت لقراءة البحث فوجدته بحثا عن مستقبل الطاقة في تايوان، يعني في صلب تخصصي، وأيضا الموضوع عن نفس البلد التي أعمل بها.

بدأت في مطالعة البحث سريعا فوجدته مليئا بمعلومات وإحصائيات، أنا لست على دراية بها، وتواصلت مع أحد زملائي بالجامعة ممن هو أعلم مني بتلك التفاصيل، فأخبرني أن الإحصائيات خاطئة والأرقام غير صحيحة والأماكن والصور مغلوطة.

وعلى الفور، تواصلت مع رئيس تحرير المجلة وأخبرته بالتفاصيل، وطالبته بإزالة البحث من قاعدة البيانات الأرشيفية للمجلة أو سحب البحث، إن لم يتسن مسحه من قاعدة البيانات.

وماذا رد عليك رئيس تحرير المجلة؟

لم يصلني رده حتى الآن، لكني أتوقع أن يقوم بسحب البحث، حتى لا يتسبب ذلك في مشكلة للمجلة. وان لم يقم بأي إجراء، سأحيل الأمر برمته للجامعة لتتخذ ما تراه مناسبا في هذا الصدد.

يحذر الباحثون من انتشار الغش العلمي المنظم (بيكسابي)
يحذر الباحثون من انتشار الغش العلمي المنظم (بيكسابي)

مجلات مهمة

لكن السؤال الذي ينقلنا من الحالة الشخصية إلى الحالة العامة، هو كيف تقبل مجلة من مجلات التصنيف الأول وذات معامل تأثير مرتفع بحثا به كم الأخطاء التي أشرت إليها؟

هذا بحث مرجعي، لا يتضمن أي جهد مختبري، وعادة لا تخضع مثل هذه الأبحاث لجهد كبير في المراجعة والتحري من قبل المحررين، لذلك كانت هي الطعم المناسب لاصطيادي من وجهة نظرهم.

لكن هذه المخالفة تمت في مجلة ذات معامل تأثير مرتفع؟

وما المشكلة، فهذا لم يعد المعيار الأصيل في تقييم المجلات، لأنه معيار رقمي يعتمد على عدد الأبحاث التي تم نشرها في الدورية وعدد الاستشهادات التي تمت للأبحاث التي نشرت بها، وأصبح من السهل تحقيق هذين الشرطين، بنشر أبحاث ضعيفة الجودة، وإجبار من ينشر بالمجلة أن يتضمن بحثه استشهادات بأبحاث سابقة نشرت بها، وتكون النتيجة في النهاية معامل تأثير مرتفع " 7.9″ لا تحققه المجلات إلا بعد صدورها بأعوام طويلة، وليس مجلة حديثة العهد مثل "ريزولتس إن إنجينيرينج".

وما هو المعيار المناسب من وجهة نظرك للتقييم؟

تاريخ إنشاء المجلة من المعايير المهمة، فكلما كانت المجلة عريقة، كان ذلك من عوامل الثقة فيها، لأن هذه المجلات يكون لها نظام محكم في النشر، وتكون هذه المجلات أيضا منتظمة في الصدور، ويكون لديها هيئة تحرير مشهود لها بالكفاءة بين أهل التخصص، ولا تنشر عددا كبيرا من الأبحاث في العدد الواحد، فلك أن تتخيل أن المجلة صاحبة الواقعة "ريزولتس إن إنجينيرينج"، نشرت خلال أسبوعين فقط 250 بحثا، فهل تتوقع مع هذا الكم أنه قد تمت مراجعة الأبحاث مراجعة دقيقة؟ لا أعتقد ذلك، فكل ما يهم هذه المجلة ومن على شاكلتها هو جمع الأموال.

ولكن المعايير التي تتحدث عنها، تعني أنك تنزع الثقة عن أي إصدار جديد، وهذا غير عادل؟

أنا أتحدث عن معايير عامة، لكن تقيم كل حالة بحالتها، فهناك مجلات جديدة تكون حريصة على اختيار رئيس تحرير على أعلى درجة من الكفاءة، ويكون لديها محررون أكفاء، وهذا يظهر من جودة الأبحاث التي تنشرها وإجراءات النشر التي تشهد تدقيقا في كل التفاصيل، ومثل هذه المجلات مثل مجلة "آي تريبل إي ترانزاكشنز أون إنرجي ماركتس، بوليسي آند ريجيوليشن"، سرعان ما تكتسب الثقة سريعا، رغم أنها بمعيار "معامل التأثير" أقل من مجلة "ريزولتس إن إنجينيرينج".

Scientists in a laboratory in Asia are conducting medical tests by analyzing chemical samples under a microscope to advance biotechnology research into disease and stem cells.
تصنيف أي جامعة أو مؤسسة يكون بأرقام النشر البحثي (شترستوك)

السعي للتصنيف

من المؤكد أن المجلات سيئة السمعة، لم تكن لتجد سوقا رائجا، لو كانت هناك ضوابط في الهيئات البحثية والأكاديمية، فكيف نوجد هذه الضوابط؟

يجب الكف عن السعي خلف التصنيفات، لأن تصنيف أي جامعة أو مؤسسة يكون بأرقام النشر البحثي، ومن ثم يصبح هدف تلك المؤسسات هو النشر فقط، وليس جودة ما تم نشره.

إعلان

وما هي الظاهرة التي لفتت انتباهك مؤخرا في هذا السلوك؟

عذرا على اللفظ الذي سأستخدمه، فقد أصبحت هناك "بجاحة"، فلم يعد مسؤولو الجامعات يخجلون عندما أتواصل معهم، وأبلغهم بأن أبحاثا لأساتذة في جامعاتهم تم سحبها بسبب مشاكل في النزاهة العلمية، فقد أصبحوا يتعاملون بمبدأ "ما لا يتم اكتشافه خير وبركة، وأصبحوا لا يتوقفون كثيرا عند هذه المشاكل، بل إن بعضهم ينظر لي كرجل "موضة قديمة"، بحجة أن الكل يفعل ذلك الآن ويسعى خلف التصنيف، حتى لو كان على حساب النزاهة العلمية.

نراك تقلل من أهمية "التصنيف"، مع أن الواقع يقول إنه في دولة مثل الهند، يكون قرار الأهالي بإلحاق نجلهم بجامعة ما، هو معدل تصنيف هذه الجامعة؟

المعلومة صحيحة، لكن الجهة المعنية بالتصنيف، تعتمد حاليا على علماء هنود متطوعين من العاملين في الخارج، بدؤوا يهتمون بهذا الأمر، وأعدوا تصنيفا يسحب نقاطا من الجامعات التي تسحب أبحاث أساتذتها بسبب مشاكل في النزاهة العلمية، وبدأ هذا التوجه يؤتي ثماره في ضبط النشر البحثي، وأرى أننا بحاجة في عالمنا العربي لإجراء مشابه.

هذا الإجراء هدفه فك الارتباط بين كمية النشر العلمي والتصنيف، لكنك قلت لي إن هناك باحثين في جامعات أوروبية وأميركية ممن لا تهتم جامعاتهم بالتصنيف يمارسون الاحتيال العلمي، فلماذا يفعلون ذلك؟

بعضهم يود أن يرتبط اسمه بعدد كبير من الأبحاث، وبعضهم يسعى للحصول على جوائز، فينتج أبحاثا تنبئ عن اختراقات في مجال التخصص، على خلاف الحقيقة.

وما الحل الجذري لهذه المشكلة؟

العالم مشغول حاليا بوضع حلول جذرية، وهناك مؤتمرات عقدت مؤخرا لمحاولة الوصول لحلول، وكان من بين تلك الحلول، والتي ستنفذها دار نشر "رويال سوسايتي" في بريطانيا، هي إتاحة النشر المجاني لأي جامعة في دولة ما، إذا وصل عدد الاشتراكات من تلك الدولة لمستوى معين يحقق معدل الربح المعقول لدار النشر، والهدف من ذلك هو القضاء على السعي الحثيث من قبل دور النشر نحو النشر لجني الأرباح.

ومن الحلول الأخرى التي طرحت في المؤتمرات، هو إتاحة البحث أون لاين قبل أن يبدأ فريق الدورية فيس مراجعته وإبداء الملاحظات، وهذا سيتيح لعدد أكبر من المجتمع العلمي رؤية البحث وتقييمه وإبداء الملاحظات، بحيث إذا تجاوز تلك المرحلة، يأخذ الخطوات الطبيعية للنشر والتي تخضع لتدقيق محرري المجلة، والهدف من هذه الخطوة هو نزع السلطة المطلقة للمحررين والذين قد يقبلون بحثا غير جيد، ولا يراعي معايير النزاهة العلمية.

وهل تعتقد أن هذه الحلول ستؤتي ثمارها؟

مع تطبيقها سنرى إن كانت مجدية أم لا، لكن ما أحب التأكيد عليه بناء على ما حدث معي، هو أننا نواجه "مافيا" محترفة، ويجب أن نظل نعمل على تطوير الحلول لمواجهتهم.

مواجهة الغش العلمي

يدرك العلماء حاليا أن انتشار ظاهرة الغش العلمي سيدفع من ناحية إلى تآكل خطير للثقة في البحث العلمي، خاصة إذا تم اقتباس الأوراق الزائفة في أبحاث حقيقية، كما أنه يضيّع الموارد، فهناك أموال ومنح تهدر على مشاريع مبنية على أساس خاطئ.

وللأمر نتائج أعمق، فقد يؤدي -أو هو بالفعل يفعل- إلى إرباك نماذج الذكاء الاصطناعي التي تُدرب على الأبحاث المنشورة، فتتعلم من بيانات مزيفة وتنتج معرفة غير موثوقة.

أما إذا تسللت أوراق زائفة بكثافة إلى مجالات الطب أو التكنولوجيا، فإن ذلك يؤثر مباشرة على صحة الناس، أو اتخاذ القرارات الحكومية في سياق نطاقات متنوعة، مثل البيئة أو المناخ.

وللخروج من هذه المشكلة، يقترح علماء عدة إجراءات يمكن أن تساعد بقوة على تنظيم العملية العلمية بشكل "صحي"، مثل تطوير أدوات ذكاء اصطناعي لرصد الأنماط الاحتيالية، وإلزام المجلات بعمليات تدقيق أكثر صرامة، وفرض عقوبات على الباحثين والمؤسسات التي يثبت تورطها، وتبنّي مبدأ الشفافية المفتوحة في البيانات والنتائج، دعم مبادرات مجتمعية لرصد ومراجعة الأبحاث بعد النشر.

إعلان

العلم الحقيقي لا يقوم فقط على الاكتشافات، بل على النزاهة والشفافية، والاحتيال العلمي المنظم لا يهدد فقط الباحثين، بل يمس المجتمعات والقرارات السياسية والصحة العامة، ومن ثم فمن الضروري أن يتكاتف المجتمع العلمي لإرساء معايير أكثر صرامة لحماية المعرفة العلمية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق