نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المواجهة المستمرّة و"دورة التاريخ" - هرم مصر, اليوم الأربعاء 10 سبتمبر 2025 07:04 مساءً
هرم مصر - "المواجهة المستمرّة كانت شعارنا كلّ يوم، وفي كلّ مناسبة وفي كافّة الظروف، ومهما كان الثمن، إلى أن دار التاريخ دورته الكاملة وأثمرت مواجهاتنا المستمرّة انتصارات كاملة وفي كلّ الاتجاهات."
بهذه العبارة لخّص رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع مسار تجربة نضالية امتدّت لعقود، حيث تحوّلت المواجهة من خيار ظرفي إلى نهج ثابت. ليست المواجهة هنا فعلًا عابرًا، بل هويّة سياسية متجذّرة تستند إلى قناعة راسخة بأنّ التاريخ لا يمنح انتصارات مجانية، بل يهبها بعد طول صراع وصبر وإصرار.
تجمع لمناصري القوات اللبنانية.أف ب
يستخدم جعجع تعبير "دورة التاريخ" ليشير إلى أنّ الأحداث لا تسير بخط مستقيم، بل تدور في حلقات تتكرّر فيها أنماط الصراع والتحدّي، إلى أن تنضج الشروط لولادة مرحلة جديدة. فالدويلة التي تفرض نفسها بقوة السلاح قد تبدو راسخة في لحظة معيّنة، لكنّ عجلة الزمن تعمل ضدّها، لأنّها مناقضة لمنطق الدولة واستقرار المجتمعات.
هذا المفهوم يستند إلى رؤية فلسفية عميقة للتاريخ. فالتاريخ، كما يظهر في تجربة لبنان، هو سلسلة من المواجهات مع الاحتلالات، الوصايات، والميليشيات، وفي كلّ دورة يكون الرهان على قدرة الدولة أن تنبعث من جديد.
في فلسفة هيغل، يتقدّم التاريخ عبر جدليّة تقوم على صراع الفكرة ونقيضها وصولًا إلى تركيب جديد. هذه الحركة الجدليّة ليست صدامًا عابرًا، بل شرطًا لتطوّر المجتمعات. من هذا المنطلق، يمكن فهم المواجهة المستمرّة عند جعجع كتجسيد حيّ لهذه الجدليّة، فالدولة في مواجهة الدويلة، السيادة في مواجهة الارتهان للخارج ومغتصبي السيادة، والقوى السياسية الداعية إلى تثبيت السيادة وقيام دولة طبيعية في لبنان في مواجهة دويلة نشأ وتعاظم شأنها على حساب الدولة انطلاقًا من سلاح غير شرعي. والنتيجة الحتمية وفق هذه القراءة هي انتصار الفكرة الأكثر عقلانية وصلابة، أي الدولة.
أمّا المؤرّخ أرنولد توينبي، فقد قدّم تفسيرًا لدورة الحضارات يقوم على ثنائية "التحدّي والاستجابة". كلّما واجهت الحضارة تحدّيًا خارجيًا أو داخليًا، كان مستقبلها مرهونًا بقدرتها على الاستجابة الخلّاقة. في السياق اللبناني، التحدّي يتمثّل في محاولات ضرب الدولة وإضعافها عبر سلبها قرارها الاستراتيجي وكلّ صلاحية تجعل منها الجهة الوحيدة المحتكرة للعنف وضابط إيقاع الدستور والقانون على الأرض اللبنانية. والاستجابة تأتي من خلال القوى السياسية التي تمسّكت بالمؤسسات الشرعية والدستور، مهما كان الثمن.
من هنا تصبح المواجهة المستمرّة ليست عنادًا سياسيًا، بل استجابة تاريخية لضرورات البقاء. فإمّا أن تُستجاب التضحيات بقدرٍ عادل يثمر دولة، وإمّا أن يُضرب الكيان أمام ثقل التحدّيات.
يربط جعجع بين الطموح للحياة واستجابة القدر، ليقول إنّ السير في طريق المواجهة لم يكن خيارًا سهلاً، بل كان ثمنه كبيرًا من تضحياتٍ ودماءٍ واعتقالٍ وعزلةٍ سياسية. لكنّ "دورة التاريخ" أثبتت أنّ هذه التضحيات لم تذهب سدى، بل مهّدت وعلى محطّات متقطعة في الزمن، لانتصارات متراكمة عبر إخراج الاحتلال السوري وجيشه من لبنان، وصولًا إلى تثبيت فكرة حصريّة السلاح بيد الدولة، وفرض منطق الإصلاح كطريق وحيد لإنقاذ لبنان.
إنّ هذه القراءة تعطي "المواجهة المستمرّة" معنى استراتيجيًا، فهي تأكيد على أنّ مسار التاريخ قد يكون طويلًا، لكنّه في النهاية ينحاز إلى من يؤمن بالحياة، بالدولة، وبقدرة الشعوب على التقدّم بحثًا عن كرامتها ورفاهيّة مجتمعاتها.
"دورة التاريخ" عند سمير جعجع ليست شعارًا بل خلاصة تجربة. هي إعلان ثقة بأنّ كلّ قوة تناقض منطق الدولة محكومة بالزوال، مهما بدت متجذّرة. وهي أيضًا دعوة إلى التمسّك بخيار المواجهة المستمرّة، لأنّ الاستسلام في منطق التاريخ يعني الانقراض، بينما النضال يعني الحياة. لقد طمح اللبنانيون للحياة، وواجهوا في سبيلها، وها هو القدر يستجيب لهم عبر دورة تاريخية جديدة، يثبت فيها أنّ الدولة وحدها تبقى، أمّا الدويلة فإلى زوال.
0 تعليق