من باريس إلى برلين: هل دخلت أوروبا زمن القيادة المفقودة؟ - هرم مصر

اخبار جوجل 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
من باريس إلى برلين: هل دخلت أوروبا زمن القيادة المفقودة؟ - هرم مصر, اليوم الأربعاء 10 سبتمبر 2025 01:05 مساءً

هرم مصر - تشهد أوروبا لحظة تاريخية حرجة تطرح أسئلة جوهرية حول مستقبلها ودورها في النظام الدولي. فبعد أن أطاح البرلمان الفرنسي بحكومة فرانسوا بايرو بحجب الثقة عنها، دخلت فرنسا في حالة جديدة من الشلل السياسي الذي يضاف إلى تراكمات سابقة منذ انتخابات 2022، حيث لم يتمكن الرئيس إيمانويل ماكرون من تحقيق أغلبية مستقرة، فظل مضطراً لإدارة البلاد عبر حكومات ائتلافية هشة لا تصمد أمام الأزمات. لم يعد الأمر مجرد أزمة حكومية عابرة كما عرفت فرنسا في مراحل سابقة من الجمهورية الرابعة، بل أصبح انعكاساً لأزمة أعمق تعكس تراجع قدرة الدولة على إنتاج استقرار سياسي داخلي يتيح لها لعب أدوار خارجية كبرى. الاقتصاد الفرنسي نفسه يزيد المشهد صعوبه، إذ تجاوز الدين العام حاجز 114% من الناتج المحلي، بينما تعاني المالية العامة من ضغوط متصاعدة جراء التزامات اجتماعية متراكمة، وانكماش في ثقة الأسواق، وتوترات اجتماعية نتيجة ارتفاع معدلات البطالة والتضخم. في ظل هذا الواقع، لم تعد باريس قادرة على ممارسة دورها التاريخي كقاطرة مع برلين في قيادة المشروع الأوروبي

في الجانب الآخر، تجد ألمانيا نفسها في موقع غير مسبوق. فالمستشار فريدريش ميرز الذي جاء من خلفية محافظة، يواجه مهمة ثقيلة: إعادة رسم دور بلاده في أوروبا. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى مرحلة ما بعد الوحدة الألمانية، لعبت برلين دور القوة الاقتصادية الكبرى التي تفضل الاختباء وراء المظلة الأمنية الأمريكية وتترك الملفات الاستراتيجية والعسكرية لغيرها، خصوصاً لفرنسا وبريطانيا. لكن اليوم، ومع انكفاء بريطانيا بعد “بريكست”، وتراجع فرنسا إلى الداخل، أصبحت ألمانيا مضطرة لأن تتجاوز إرث “القوة المدنية” لتتحول إلى “قوة استراتيجية”. هذا التحول ليس سهلاً، فالمجتمع الألماني ما زال متحفظاً تاريخياً على عسكرة السياسة، والجيش الألماني يعاني من قصور في التجهيزات والقدرات رغم محاولات التحديث، لكن الواقع الجيوسياسي لا يترك خياراً آخر. ألمانيا تدرك أن استمرار التردد سيترك القارة في حالة من الفراغ الخطير، خاصة في ظل تهديدات روسيا، وتزايد المخاطر في شرق أوروبا والبلطيق، فضلاً عن التحديات الاقتصادية بتداعيات الحرب الأوكرانية  وتصاعد ثقل الصين

غير أن المشهد الأوروبي لا يكتمل من دون النظر إلى علاقة القارة بالولايات المتحدة، حيث يفرض الرئيس دونالد ترامب واقعاً جديداً. فترامب، المعروف بميله إلى اتخاذ القرارات بعيداً عن المؤسسات التقليدية في واشنطن، ينظر إلى الحرب في أوكرانيا من زاوية المصالح البحته. هو لا يعارض فرض عقوبات إضافية على موسكو، بل أبدى استعداداً للتنسيق مع الأوروبيين في هذا المجال، لكنه في الوقت ذاته لا يخفي امتعاضه من شركائه في الاتحاد الأوربي، متهماً إياهم بإطالة أمد الحرب واستغلال الموقف لتعزيز مصالحهم. الأوروبيون يسعون جاهدين للحفاظ على جبهة موحدة ضد روسيا، لكنهم في النهاية يجدون أنفسهم محكومين بإيقاع البيت الأبيض. وبينما ترى أوروبا أن استنزاف روسيا في أوكرانيا قد يكون الوسيلة المثلى لضمان أمنها في المستقبل، يضع ترامب في حسبانه اعتبارات داخلية وانتخابية، ويسعى إلى تقليص الكلفة الأمريكية وإيجاد تسوية سريعة قد لا تراعي تماماً مصالح كييف ولا حتي مخاوف أوروبا.

هذا الوضع يعيد إلى الواجهة سؤالاً قديماً جديداً: هل تستطيع أوروبا أن تكون قوة مستقلة بذاتها، أم أنها ستظل تابعة للولايات المتحدة؟ لقد طرحت هذه الإشكالية منذ أزمة السويس عام 1956 مروراً بأزمة العراق عام 2003 وصولاً إلى الحرب الأوكرانية اليوم. في كل مرة، تُظهر الأحداث أن أوروبا تفتقر إلى أدوات الاستقلال الاستراتيجي الحقيقي. فرغم وجود هياكل مثل الاتحاد الأوروبي ، فإن القرار النهائي يبقى موزعاً بين العواصم الكبرى، وأحياناً مرتهناً بالمواقف الأمريكية. المحاولات الأخيرة لتشكيل مبادرات أوروبية مستقلة مثل “البوصلة الاستراتيجية” أو مشاريع تعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية تبقى محدودة التأثير أمام قوة الاعتماد على واشنطن.

في هذا السياق، تظهر محاولات بعض الدول لتعويض العجز القيادي، مثل بولندا التي تقدم نفسها كحامية لأمن شرق أوروبا، وتسعى لتكريس صيغة “فايمار بلس” التي تجمعها مع ألمانيا وفرنسا ودول أخرى. لكن هذه المحاولات، مهما بلغت من حماسة، تظل محكومة بضعف التنسيق العام وغياب رؤية أوروبية شاملة. فالاتحاد الأوروبي، منذ تأسيسه، كان يقوم على توازن دقيق بين باريس وبرلين. فإذا انهارت باريس داخلياً وترددت برلين في تولي القيادة، فإن البناء بأكمله يصبح مهدداً بالضعف .

إن القول إن أوروبا بلا قيادة لا يعني فقط غياب شخصيات سياسية بارزة، بل يشير إلى غياب المشروع الجماعي والقدرة على ترجمة المواقف إلى قوة موحدة. اليوم، تبدو القارة العجوز أمام لحظة مفصلية: إما أن تستعيد زمام المبادرة ببناء قيادة جماعية أكثر تماسكاً، قادرة على التحدث بصوت واحد في مواجهة واشنطن وموسكو على السواء، وإما أن تبقى متأرجحة بين انقسامات داخلية وتبعية خارجية. في السيناريو الأول، يمكن أن نشهد ولادة أوروبا جديدة تعيد اكتشاف قدرتها على الفعل والتأثير، وفي السيناريو الثاني، قد تغرق القارة في هامشية استراتيجية تجعلها مجرد تابع في لعبة القوى الكبرى. والتاريخ يعلمنا أن الأمم التي تتردد طويلاً أمام مسؤولية القيادة تفقد موقعها بسرعة، وأن اللحظات الحرجة لا تمنح فرصاً لا نهائية. أوروبا اليوم أمام لحظة اختيار تاريخية، إما أن تتحول إلى فاعل مركزي، أو أن تنزلق إلى موقع المتفرج على نظام عالمي يتشكل من دونها.

وعند النظر إلى آفاق المستقبل حتى عام 2030، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمصير أوروبا. السيناريو الأول هو أوروبا الموحّدة، حيث تنجح برلين وباريس، وربما عبر شراكات موسّعة مع وارسو وروما ومدريد، في بلورة قيادة جماعية تتبنى سياسة دفاعية مشتركة وتحقق قدراً من الاستقلال الاستراتيجي عن واشنطن. في هذا المسار، قد نشهد تعزيزاً لبرامج مثل “البوصلة الاستراتيجية” وتكريس دور الصناعات العسكرية الأوروبية، بما يحول الاتحاد إلى لاعب مستقل قادر على التفاوض مع الولايات المتحدة من موقع قوة. السيناريو الثاني هو أوروبا المجزأة، حيث يستمر الشلل الفرنسي ويغرق المشروع الألماني في التردد، فتتصاعد النزاعات الداخلية بين دول الشرق والغرب، ويضعف الاتحاد أمام الأزمات الاقتصادية والأمنية، وربما نشهد صعود تيارات شعبوية تهدد حتى أسس التكامل. أما السيناريو الثالث فهو أوروبا التابعة لواشنطن، حيث تختار العواصم الأوروبية القبول بمظلة أمريكية كاملة في مقابل الأمن والاستقرار، فتظل القارة متأثرة أكثر مما هي مؤثرة، مع هامش محدود للمبادرات المستقلة.

بين هذه السيناريوهات الثلاثة، تبدو ملامح العقد المقبل رهناً بقدرة أوروبا على تجاوز أزماتها الداخلية اولاً ، وباستعدادها لتحمل مسؤولياتها الأمنية والاقتصادية ثانياً. فإذا اختارت أوروبا الوحدة،ان تعود لتكون قطباً مؤثراً في عالم متعدد الأقطاب، وإذا استسلمت للتجزئة أو التبعية، فإنها ستدخل مرحلة تراجع استراتيجي قد يستمر جيلاً كاملاً او اكثر.

 

السفير عمرو حلمي 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق