أرمينيا رحلة إلى طبيعة آسرة وتاريخ معقّد - هرم مصر

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أرمينيا رحلة إلى طبيعة آسرة وتاريخ معقّد - هرم مصر, اليوم الثلاثاء 9 سبتمبر 2025 08:57 صباحاً

هرم مصر - بدا آرتور، السائق، متحمساً. عرف أننا نزور أرمينيا للمرة الأولى، فلم يترك تفصيلاً لم يحاول شرحه لنا. ولأن أياً منا لا يفهم لغته، كان ينادي رازميغ، الدليل السياحي، ليساعده في ايصال فكرته.
وحدها عجقة السير في الطريق من يريفان الى مغارة ليفون أزعجته. أراد أن يفعل أي شيء ليتحرك السير ولا نفوت علينا موعدنا.وتقول رئيسة لجنة السياحة لوسين جيفورجيان إن عدد السياح سجل رقماً قياسياً العام الماضي، مع 2,3 مليون سائح، وأن الحكومة تعمل على تطوير السياحة من خلال مشاريع قوانين وخطط تسويقية.

 

اقرأ أيضاً: رئيسة لجنة السّياحة في أرمينيا لـ"النهار": سجّلنا عدداً قياسياً للسّياح والسّوق العربية مهمّة لنا

 

 

ليست زحمة السير في يريفان مجرد مؤشر على أن طرق هذه المدينة وشوارعها باتت تضيق بأبنائها، بل دليل أيضاً على أن العاصمة المنسية باتت حاضرة أكثر وأكثر في الوجهات المحتملة للمستثمرين والسياح، وأيضاً في خطط الملايين من أبنائها المشتتين حول العالم.

فعلاً، تحتاج هذه البلاد الجبلية الصغيرة جغرافياً والغنية بتاريخها إلى أن تعرّف عن نفسها للعالم بغير سيرة المآسي التي ارتبطت باسمها.
حتى بالنسبة إلى لبنانية مثلي آتية من بلاد يعيش فيها أكثر من 100 ألف أرميني، شعرت أنني لا أعرف هذا الوجه الجميل لبلد يتطلع إلى المستقبل بأمل كبير وحذر معاً.
ومع ذلك، لا يمكنني إلا أن أقر بأن هذا التداخل بين التاريخ والثقافات والحضارات التي تعاقبت على هذه الأرض والفظائع، هو ما يجعل أرمينيا بلداً لا يشبه إلا نفسه.

 

 

"الأم أرمينيا"

لا يمكن زائر يريفان إلا أن يشعر بالرهبة أمام "الأم أرمينيا" المشرفة على قلب العاصمة. تمثال ضخم  في حديقة النصر لامرأة تحمل سيفاً مصوباً غرباً، صوب تركيا، وخلفها جبال أرارات، تختصر قصته فصولاً من حكاية هذه البلاد.
شيد هذا النصب الذي يمثل الأم الأرمينية المستعدة للدفاع عن عائلتها، عام 1962 ووضع مكان  تمثال للزعيم السوفياتي جوزيف ستالين كان يرمز إلى انتصارات الحرب العالمية الثانية. ويروى أنه عند إنزال التمثال، سقط على العمال، ما أدى إلى مقتل عدد منهم. ويردد رازميك بابازيان، الدليل السياحي، رواية سائدة فيها الكثير من الفكاهة أن أولئك كانوا "آخر ضحايا ستالين".

 

 

مخطوطة نادرة في متحف

لا تزال الهندسة السوفياتية تطغى على يريفان، وعمارة البازالت تسوّد المشهد. ولكن معالم الحداثة تتسلل بوضوح إلى الأحياء والشوارع الرئيسية مع مبان عصرية، وماركات أوروبية منتشرة جنباً إلى جنب مع الصناعات المحلية. 

الواضح أن يريفان تخلع تدريجاً عباءتها السوفياتية، وقد تكثفت هذه النزعة في السنوات الأخيرة، بعد تخلي موسكو عن يريفان في ناغورنو كراباخ.  
في الشوارع، تراجعت "اللادا" لمصلحة "أوبل" الألمانية والسيارات الأوروبية، وباتت أسماء الشوارع وإشارات العبور تُكتب بالإنكليزية بدل الروسية، إلى جانب الأرمينية طبعاً.

 

 

ومع ذلك، لا يزال الحضور الروسي قوياً في البلاد. فالروسية لا تزال اللغة الثانية، والروس يتقدمون السياح من الجنسيات الأخرى،  وخصوصاً بعدما تحولت أرمينيا طريق عبور لهم منذ الحرب الأوكرانية والحصار الذي فُرض على موسكو.

نهاراً تضيق شوارع يريفان بالسيارات، وليلاً يشعل السهر أحياء صارت عنواناً للترفيه. في شارع ساريان شيء من أرصفة أوروبا وسهرات بيروت ونرجيلة القاهرة. وفيه أيضاً حانة "إن فينو" التي تضم مئات أنواع النبيذ الأرمني ومن دول عدة حول العالم.

 

 

نصب

نصب

اكتسبت الحانة شهرة واسعة وصارت محطة للسياح الأجانب. وهي تقع مباشرةً  قبالة متحف منزل الفنان مارتيروس ساريان، الذي تُزيّن واجهته فسيفساء خلابة لجبل أرارات.  

أكثر ما يلفت في يريفان أن الحياة العصرية التي تتغلغل في شوارعها لم تلغ مكانة متقدمة لتاريخ عريق وإرث غني. تحرص أرمينيا على  حماية ذاكرتها وإرثها وتكرّم كبارها بأسماء شوارعها من ميزروب ماشتوت، مؤلف الأبجدية الأرمينية في القرن الخامس، وخاتشادور  أبوفيان الكاتب الأرميني من أوائل القرن التاسع عشر إلى القائد العسكري ورئيس الوزراء الأسبق فازغين ساركيسان.وحتى عملتها تحمل أسماء فنانين وشعراء وشخصيات تركوا بصمة في تاريخ هذا الشعب.   
وفي متحف المخطوطات "ماتنادران" الذي يبدو أشبه بقلعة تحرسها "الأم أرمينيا"، تحفظ يريفان كنوز "أرمينيا الكبرى"، بما فيها مخطوطة من أرتساخ.

 

 

مخطوطة من أرتساخ (النهار)

مخطوطة من أرتساخ (النهار)

ويؤوي المتحف مخطوطات نادرة مقدمة من دول كثيرة حول العالم.

وكان نائب وزير خارجية أرمينيا فاهان كوستانيان قد أعلن خلال المؤتمر الدولي الذي عقد في الأمم المتحدة برئاسة مشتركة من فرنسا والسعودية، أنه سيتم إيواء التراث الثقافي الفلسطيني المهدد بالخطر مؤقتاً في متحف ماتنادران بأرمينيا. 
ويشكل مجمع كاسكيد معلماً رئيسياً في المدينة، بتصميمه الغريب، وهو مجمع من الشلالات والمعارض والسلالم المؤدية إلى حديقة بُنيت للاحتفال بانتصار ستالين على الفاشية، وأمامه نصبٌ تذكاريٌّ لألكسندر تامانيان (1878-1936) الذي كان في وقتٍ من الأوقات المهندس المعماريَّ الرئيسيَّ للمدينة.

زيارة أرمينيا ليست رحلة إلى طبيعة آسرة فحسب، بل أيضاً إلى تاريخ معقد تشكل عبر قرون من الغزوات والتحولات. فقد تعاقبت على هذه الأرض حضارات كبرى، من الحيثيين والمغول إلى العثمانيين والروس، تاركة وراءها إرثاً متنوعاً يلمسه الزائر في العمارة الحجرية، المتاحف، والمواقع الأثرية التي تجعل من البلاد وجهة استثنائية لعشاق التاريخ. 

 

دير نورافانك (النهار)

دير نورافانك (النهار)

 

وأرمينيا أقدم دولة مسيحية على وجه الأرض. في عاصمتها وأقاليمها تتنافس 4000 كنيسة ودير وكاتدرائية، تتقدمها كنيسة إيتشمياتزين المعروفة بأنها أول كنيسة في العالم. ومن لا يزورها في أرمينيا، كأنه ذهب إلى روما دون زيارة كاتدرائية القديس بطرس.

وفي أقصى الجنوب، يقبع دير تاتيف جوهرة العمارة الأرمنية في القرون الوسطى، وكان  مركزاً سياسياً وتعليمياً استراتيجياً. ضمت مكتبته أكثر من 10,000 مخطوطة أحرقها المغول ودمروها في ليلة واحدة.
وبات تلفريك "تاتيفير" وسيلة سهلة للوصول إلى هذا الدير القابع وسط واد خلاب.

 

 

دير نورافانك (النهار)

دير نورافانك (النهار)

 

 وشملت جولتنا أيضاً دير نورافانك من القرن الثالث عشر ودير هاغاردزين من القرن العاشر الذي رمّمه حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي بعدما كان مهدداً بالانهيار نتيجة الإهمال والحروب والزلازل.

وإضافة إلى الكنائس، تحافظ أرمينيا، على مسافة 25 كيلومتراً من يريفان، على تحفة معمارية تعتبر المعبد الوثني الوحيد الذي لا يزال قائماً في دول الاتحاد السوفياتي السابق. فقد شيّد معبد غارني في القرن الأول الميلادي كمعبد لإله الشمس مير، وتعتبر الصورة أمامه أجمل تذكار من تلك البلاد.

 

 

9469230242.jpg

 

 

كثيرة هي الكنوز المخفية في أرمينيا، ولكن سيمفونية الصخور (Symphony of Stones)، الحرف الجبلي المحفور بفعل رياح نقشت عليه على مر السنين رسوماً تشبه مفاتيح البيانو، قد تُعتبر من العجائب لشدة جمالها. 

أرمينيا، بلاد التاريخ هي أرض الكرم أيضاً، ولا تكتمل زيارتها بلا حلويات الغاتا وخبز لافاش المدرج على لائحة اليونسكو للتراث غير المادي.

 

 

22ceaea9ba.jpg

منتجع صحي في جيرموك.

 

وللسياحة العلاجية مكانة مميزة، وتستأثر جرموك في جنوب البلاد بمكانة متقدمة في هذا الشأن.
ينعش الصنوبر هواء هذه البلدة الواقعة على ارتفاع أكثر من 2000 متر عن سطح البحر، وترتفع حرارة  ينابيعها الطبيعية الوفيرة إلى 50 درجة مئوية. فيها منتجع عصري يقدم للضيوف علاجاتٍ طبيةً مُخصصةً مع أحدث الآلات الأوروبية والفرق المتخصصة.
أثرت الحرب في ناغورنو كراباخ على الحركة في جرموك، وها هي اليوم كما أرمينيا كلها تتطلع إلى السلام للانتعاش مجدداً. 

 

 

أغادر أرمينيا مع صور جميلة كثيرة ستبقى في مخيلتي، وتذكار من رازميك هو حرف الميم بالأرمينية، سيذكرني دائماً أنه في تلك الرقعة من القوقاز بلد واعد  وشعب مثابر يتطلع الى المستقبل بأمل كبير.

   
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق