جريدة هرم مصر

قانا 1996… كيف حمت الأمم المتحدة لبنان؟

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
قانا 1996… كيف حمت الأمم المتحدة لبنان؟, اليوم السبت 19 أبريل 2025 01:31 مساءً

أحمد فرحات

“كي لا ننسى” ليس مجرد شعار يُرفع في الذكرى، بل هو جرس ذاكرة لا يكفّ عن القرع في ضمير الزمن. يومها، لم تكن قانا مجرّد بلدة جنوبية، بل كانت محرابًا احتمى فيه الأبرياء بظلّ علم الأمم المتحدة الأزرق، فإذا به يتحوّل إلى كفنٍ جماعي، حين قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي نحو 106 لبنانيين، لجأوا إلى مقر قوات “اليونيفيل” علّهم يجدون فيه ملاذًا من نيران العدوان، في نيسان 1996، ضمن عملية سماها الاحتلال “عناقيد الغضب”.

كان العدو الإسرائيلي في ذلك الحين، ينفث سمومه جوًا وبرًا على جنوب لبنان بين 11 و27 نيسان، سعيًا إلى اقتلاع جذوة المقاومة الصاعدة، وإخماد نارها التي أقلقته، وتأمين حدوده الزائفة مع فلسطين المحتلة، عبر إبعاد شبح المقاومة عن شريطه المحتلّ آنذاك.

لكن تفاصيل المجزرة التي هزّت الضمير الإنساني، تروي مشهدًا أشبه بفصل من فصول الجحيم. صواريخ بعيدة المدى، أكثر من 15 قذيفة فوسفورية، قصف عشوائي، وجدران كنيسة تحولت إلى محرقة. أجساد تفحّمت، وصرخات أطفال تساقطت تحت أقدام المجتمع الدولي، وتحت ظلال العلم الأزرق، الذي كان يفترض أن يكون خيمة أمان لا شبحًا من دخان ودمار.

برّر الاحتلال جريمته بادّعاء الجهل بوجود المدنيين، لكن موشيه يعالون، رئيس الاستخبارات العسكرية (أمان) حينها، أقرّ بأن الضباط كانوا على علم بوجودهم. فهل كانت الأجساد المشتعلة مجرد “خطأ” في الحسابات؟ أم أن “الخطأ” صار سياسة متعمّدة حين يتعلق الأمر بدم شعوب المنطقة؟

وكأنّ المشهد لا يكتمل إلا بخذلانٍ دوليّ مألوف. مجلس الأمن، بأسنانه الأميركية، عضّ الحقيقة ومنع صدور إدانة للجريمة. فتكرّس مجددًا مشهد العدالة العوراء، حيث المجازر موثّقة، والقاتل معروف، لكن الفيتو الأميركي يدفن الحقيقة في أدراج المصالح السياسية.

رغم صدور تحقيق أممي رسمي أكد علم الاحتلال بوجود المدنيين، ورغم تقارير دولية عديدة وصلت إلى النتيجة ذاتها، بقي المجرم حرًّا طليقًا، وبقيت الضحية تروي مأساتها للعالم الصامت.

إنها مقدمة لا بد منها لفهم ما جرى في تلك المجزرة التي نعيش اليوم ذكراها الـ29 (18 نيسان 1996). تلك المجزرة لم تكن مجرد حدث، بل كانت صرخة من لحم ودم، تقول إن الأمم المتحدة أخفقت في حماية المدنيين، ثم في إدانة القاتل، ثم في منع تكرار المجازر. ثلاثية خذلان تُحفر في ذاكرة الشعوب، وتفضح خضوع المؤسسة الدولية لمنطق السطوة الغربية والهيمنة الأميركية، التي جعلت من الكيان الإسرائيلي كائنًا فوق القانون وفوق العقاب.

حين تأسست “اليونيفيل” بموجب القرار 425 في آذار 1978، رُسمت لها ثلاث مهمات: تأكيد الانسحاب الإسرائيلي، إعادة السلم والأمن، ومساعدة الدولة اللبنانية. لكنها لم تُفلح في صدّ اعتداء واحد. فبعد ثلاث سنوات فقط، اجتاح الاحتلال بيروت، واحتل ثاني عاصمة عربية بعد القدس، بينما كانت الأمم المتحدة تكتفي بالمراقبة عن بعد.

طوال السنوات الممتدة من 1978 وحتى 2025، أخفقت الأمم المتحدة في منع الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان. فمن حمى لبنان؟ ومن حقق له الاستقرار والهدوء؟

ومع اندلاع المقاومة، بكل أطيافها ومكوناتها، بدأ فعل الردّ، فعل الرفض، فعل التحرير. وكانت ثمرة ذلك الاندحار الإسرائيلي في 25 أيار 2000، بلا منّة من قانون دولي ولا من قرار أممي، بل من عرق المقاومين ودمهم، ومن شجاعة من اختاروا طريق الكرامة.

وما بين عامي 2000 و2006، عرف لبنان هدوءًا نسبيًا، حتى جاء عدوان تموز ليُعيد المشهد: صمت دولي، تقاعس أممي، وعدوان إسرائيلي ممنهج. مجددًا، فشلت الأمم المتحدة في أن تكون درعًا للشعوب، أو حتى شاهدًا نزيهًا على الجريمة.

بالفيديو | أولة مشاهد مجزرة قانا ١٩٩٦ التي اشعلت الرأي العام العالمي

ومن رحم “نيسان 2006” و”تموز 2006″، وُلدت معادلة “الكاتيوشا”، وتبلورت نواة “الجيش – الشعب – المقاومة”، تلك الثلاثية التي لم تكن نظريّة في كتب السياسة، بل معادلة حيّة نبضت في وجه الغطرسة، وأرست حق المقاومة المشروع في رد العدوان، حقًا يكفله العقل والمنطق، كما تكفله المواثيق والأعراف الدولية.

ثم جاءت حرب غزة عام 2023، فبان القناع تمامًا. العدو نفسه، العقلية نفسها، المجازر نفسها، والصمت نفسه. لكن المقاومة، بدورها، لم تتبدّل. أدركت قيادة حزب الله باكرًا نوايا العدو التوسعية، فدخلت معركة “طوفان الأقصى” لا كخيار طارئ، بل كواجب استراتيجي في الدفاع عن لبنان، وعن جوهر القضية. بين أن الكيان بدأ فعليًا تنفيذ مشروعه للسيطرة على قطاع غزة أولًا، وعلى الضفة الغربية ثانيًا، وعلى جنوب لبنان ثالثًا، فضلًا عن مساعيه للتدخل الأمني والعسكري والسياسي في الشأن اللبناني الداخلي. فكان قرار التصدي للعدو، والدخول في معركة “طوفان الأقصى”، باعتبارها معركة الأمة في الوقت الراهن، ومعركة حماية لبنان أيضًا.

لبنان لم يكن يومًا جزيرة منفصلة عن الإقليم، بل كان قلب الصراع، ونبض الممانعة. والتاريخ، بكل فصوله، يشهد أن هذا البلد الصغير، بأهله ومقاومته، كان وما زال شوكة في خاصرة المشروع الصهيوني. وإن حاول البعض التعمية على هذه الحقيقة الجغرافية والتاريخية، التي لا تتبدل بتصريحات هنا أو هناك. فلبنان كان وما زال وسيبقى في قلب الصراع العربي – الإسرائيلي. هذا الصراع الذي افتعله الغرب بتأسيسه الكيان الإسرائيلي، وتسليحه ليكون قاعدة عسكرية متقدمة له.

بالفيديو | شاهد على مجزرة قانا 1996.. شهيد على طريق القدس 2024

أما الغرب، فلا يزال يمسك بزمام المؤسسات الدولية، يستخدمها حين يشاء، ويعطّلها متى شاء. فأين المحكمة التي حاكمت بوش وبلير على مأساة العراق، رغم إقرار الأخير بأنها قامت على كذبة “أسلحة الدمار الشامل”؟ وأين العدالة التي نادت بإنصاف ضحايا قانا وعلى رأسهم شمعون بيريز الذي كان رئيسًا للحكومة التي اقترفت وأين العقاب لمن أمر بإحراق غزة وأطفالها وما زال؟

إن الأمم المتحدة اليوم، كما كانت بالأمس، تترنّح بين التسييس والتقاعس، بين العجز والتواطؤ. ولم تعد دعوات الإصلاح ترفًا، بل صرخة أخيرة لإنقاذ ما تبقى من هيبة القانون الدولي. حيث تعاني منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات المرتبطة بها من ترهلات قانونية وسياسية تتطلب إصلاحات عاجلة، وهذا ما أكّد عليه العديد من الباحثين والمسؤولين في هذه المنظمة، وعلى رأسهم الأمينان العامّان السابقان بطرس غالي (1991 – 1996)، وكوفي عنان (1997 – 2007).

أما من يطالب اليوم بالاحتماء بتلك المؤسسات لحماية لبنان، فليلتفت قليلًا إلى السماء، حيث طائرات الاحتلال تنتهك يومياً السيادة والقرار الدولي رقم 1701، وتقصف مناطق مدنية، وليسأل نفسه: من الذي يحمي الشعوب حقًا؟ وهل أن الأمم المتحدة تحميها وتصون كرامتها؟ وهل فعلتها يومًا في السابق؟

المصدر: موقع المنار

أخبار متعلقة :