عبد المنعم المريمي… شهيد الكلمة الذي سقط تحت سلطة القمع
رجل الكلمة الذي قُهر مرتين.. أولاهما بتسليم عمه وثانيهما حين أوقعه الداخلي في فخ تهمة واهية
لم يكن عبد المنعم المريمي سوى مواطن عادي، شاعر وفنان مرهف، شاب من مدينة طرابلس يكافح لتربية أطفاله، بلا علاقة تُذكر بدهاليز السياسة وخباياها.
غير أن عبد المنعم وجد نفسه مدفوعًا إلى دروب السياسة القاسية في ليبيا، حين اختُطف عمه، الضابط السابق بجهاز الأمن الخارجي، أبو عجيلة المريمي، ليلة السادس عشر من نوفمبر 2022، على يد عناصر “القوة المشتركة مصراتة”، ونُقل إلى المدينة بأمر مباشر من رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، تمهيدًا لتسليمه إلى الولايات المتحدة، وهو ما حدث فعلًا.
منذ تلك اللحظة، تغيّر كل شيء.
صوت احتجاجات لا يهدأ… وبوابة عبور إلى المشهد السياسي
عبد المنعم المريمي حمل ذلك المشهد في قلبه وخرج إلى الشوارع، مناصرًا لحراك رافض لتسليم أي مواطن ليبي إلى دولة أجنبية، مهما كان شأنه. أصبح وجهًا مألوفًا في كل مظاهرة ووقفة ضد حكومة الدبيبة، داعيًا الناس للخروج بصوت الكلمة وحدها، ممسكًا بلافتاته التي دوّن عليها أبرز شعاراته، ومنها رسالته الشهيرة التي قالها عمه من محبسه الأميركي: “سلمولي على تراب بلادي.”
منذ تلك الوقفة، ارتفع اسمه، وتحوّل إلى أيقونة شبابية. لكن مع تصاعد حدة التوترات في طرابلس، وبعد العملية العسكرية الفاشلة التي استهدفت الإطاحة بجهازي “دعم الاستقرار” و”الردع”، وتصاعد الغضب الشعبي ضد الدبيبة، تحوّل المريمي إلى هدف.
تحريض وتخوين… ورسائل تهديد معلنة
لم تتقبل الحكومة وأذرعها الأمنية والإعلامية ذلك الصوت الوحيد، وبدأت حملة شرسة ضده، يقودها خطاب سابق للدبيبة، زعم فيه أن عم عبد المنعم “أبو عجيلة” ليس ليبيًا بل تونسيًا، محاولة لشيطنته أمام الناس.
ومع تلك الحملة، بدأ عبدالمنعم المريمي يتلقى تهديدات علنية ومباشرة، بعضها بالقتل، وبعضها بالسجن أو الترحيل، بينها رسائل صوتية مسلحة من داخل مدينة مصراتة، نشر بعضها علنًا، لكنه لم يكترث. ظل يردد أن كل ما يفعله لا يتعدى المطالبة برحيل الحكومة.
الكمين… يوم الاعتقال الأخير
في يومه الأخير، 30 يونيو 2025، خرج المريمي كعادته، برفقة أطفاله بسيارته، ليتعرض لكمين وحشي نفذه جهاز الأمن الداخلي بأوامر رئيسه الجديد العميد مصطفى الوحيشي.
خُطف عبد المنعم أمام أطفاله، الذين تُركوا وحدهم في الشارع، في مشهد يفتقر لأي ذرة من إنسانية أو مسؤولية.
قضية مفبركة… وسقوط في المجهول
اتهموه بالتخابر مع شخص مصري، ليتضح لاحقًا أنه صحفي أجرى معه مقابلة منشورة علنًا، وظل عبد المنعم مختفيًا إلى أن أعلنت النيابة العامة يوم 3 يوليو تسلُّمها أوراق قضيته، التي اتضح لاحقًا أنها لا تحمل ما يبرر اعتقاله.
قررت النيابة الإفراج عنه، لكن لحظة الانتظار قبل إخراجه، انقلبت إلى مأساة.
وفق رواية النيابة، وخلال انتظاره وصول ذويه، قفز عبد المنعم من بين درابزين السلالم إلى الطابق الأرضي، في واقعة وثقتها كاميرات المراقبة، قيل إنه كان في حالة هلع من احتمال تسليمه مجددًا لجهة أخرى.
التقرير الطبي… جسد محطّم وأمل مفقود
نُقل المريمي إلى “مصحة الخليل” بحالة حرجة، حيث كشف تقرير طبي رسمي عن إصاباته المروعة:
إصابات حرجة بالرأس والصدر والعمود الفقري.
نزيف دماغي حاد في الفص الجبهي الجداري الأيمن بسمك 2.4 سم.
كسور في عظام الجمجمة، مع نزيف من الأذن اليمنى والأنف.
غيبوبة تامة بمعدل وعي 3 من 15، دون أي استجابة عصبية.
وضع على جهاز تنفس صناعي، مع حالة دمَوية غير مستقرة.
خضع لعملية تفريغ ضغط دماغي مع إزالة جزء من الجمجمة.
إدخال عظمة الجمجمة إلى البطن مؤقتًا.
كسور متعددة بالفقرات من C7 إلى D9، إضافة إلى استرواح صدري وتركيب أنبوبين صدريين.
الفريق الطبي أكد وجود “احتمال وفاة مرتفع”.
وفي مساء الجمعة، 4 يوليو 2025، أعلن عن وفاته.
الشارع ينتفض… غضب واسع ومطالب بالمحاسبة
فور إعلان الوفاة، انفجرت شوارع طرابلس الكبرى والزاوية، خرج المواطنون غاضبين، يرددون هتافات تطالب بإسقاط حكومة الدبيبة، أشعلوا الإطارات وأقفلوا الطرق، واحتشدوا أمام مقر النائب العام مطالبين بكشف حقيقة ما جرى.
ردود غاضبة… إدانات داخلية ودولية
في موقف لافت، أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن “صدمتها وحزنها العميق” لوفاة المريمي، مطالبة بفتح “تحقيق شفاف ومستقل” في واقعة احتجازه التعسفي، وظروف وفاته، وشبهات تعرضه للتعذيب.
ودعت البعثة السلطات كافة لاحترام حرية التعبير ووقف الاعتقالات غير القانونية، مؤكدة أن ما جرى يعكس خطورة استهداف النشطاء.
أما المجلس الاجتماعي سوق الجمعة والنواحي الأربع، فوصف ما حدث بأنه “جريمة بشعة وغامضة هزّت ضمير المجتمع”.
وفي بيان شديد اللهجة، أدان المجلس الجريمة، معتبرًا إياها “إرهابًا ممنهجًا لتكميم الأفواه الحرة”، محمّلًا الجهات الضابطة المسؤولية الكاملة عمّا جرى للمريمي.
وطالب المجلس بمحاسبة جميع المتورطين في الجريمة، مؤكدًا استمرار الحراك السلمي رغم التهديدات، حتى تحقيق العدالة.
المرصد – متابعات
0 تعليق