يصف الغزيون النزوح بأنه "قطعة من جهنم"، فكيف تكون الحال حين يُحاصر الإنسان بين شبح الموت اليومي بنيران الإبادة، والنزوح القسري، والتجويع الممنهج؟
يُجبَر الآباء على حمل أطفالهم وذويهم، فارين بهم من موت إلى موت، وهم يجرون خلفهم ما تبقى من فتات الطعام وبعض الأدوات البسيطة، ليقيموا "حياة" تحت خيام مهترئة مزقتها غارات الاحتلال الإسرائيلي بلا رحمة.
لكنني اليوم لا أكتب عن مأساة الآخرين، بل أحكي لكم قصتي؛ قصة معاناة عشتها بكل تفاصيلها، قصة نزوح أعيشها يوميا، وصراع من أجل البقاء.
سأكشف لكم عن تلك اللحظات التي كان فيها الموت أقرب إليّ من الأمل، عن محاولاتي المستميتة لتأمين رغيف خبز أو جرعة ماء لأطفالي، وسط النزيف المستمر، عسى أن تلامس كلماتي شيئا من الحقيقة التي تعترينا هنا في غزة.

رحلة إلى الجحيم
لا تتوقف المعاناة عند حدود النزوح من الديار، بل تبدأ رحلة البحث عن مأوى في رقعة ضيقة من غزة، لم يبقَ للفلسطينيين فيها سوى نحو 20% من الأرض بعد أن احتل الاحتلال بالنار والدم المساحة الكبرى من القطاع.
أما البحث عن الماء والطعام، فهو معركة أخرى أكثر قسوة. فمنذ مارس/آذار الماضي، تمنع إسرائيل وصول المساعدات إلى الغزيين بآلية منظمة، ابتدعت لها "مؤسسة غزة الإنسانية" المدعومة من أميركا أيضا، وتحولت محاولات الحصول على المواد الأساسية إلى فخاخ موت، أزهقت بسببها أرواح أكثر من 500 شخص وجرح الآلاف، حسب التقارير الحقوقية.
صار التجويع يدفعنا للسير طوعا نحو ساحات الموت، نمشى عدة كيلومترات تحت الشمس الحارقة، في مناطق صنفها الاحتلال "مناطق قتال خطيرة"، تمر في شوارع وأحياء سويت بالأرض.
وعند الاقتراب من مناطق توزيع المساعدات، نواجه عصابات قطاع الطرق، المسيرين بتوجيه ضباط مخابرات الاحتلال، حسب الشهادات الإعلامية، فيجنون حصاد الشاحنات التي أُجبر الاحتلال على إدخالها لغزة لأغراض سياسية ضيقة.
من المؤلم أن تقف عاجزا أمام وقاحة اللصوص وقطاع الطرق، يحملون السلاح، بينما تحلق طائرات الاحتلال المسيّرة على ارتفاعات منخفضة فوق رؤوس آلاف الجائعين الذين يبحثون يائسين عن كيس الطحين أو بعض المواد الغذائية التي تجبر لشرائها بأسعار خيالية، فكيس الدقيق الذي يسطو عليه اللصوص، صار سعره 800 شيكل (أكثر من 200 دولار).
إعلان
رحت أبحث من شارع ومن زقاق لآخر، برفقة ابني الذى أبى إلا أن يأتي معي ليساعدني في حمل ما أقدر على الحصول عليه من طعام مهما كلف الثمن، وليدافع عني بيديه العاريتين أمام اللصوص وقطاع الطرق الذين لم يسلم منهم لا طفل صغير ولا امرأة ولا شيخ كبير.
وبين رصاص الاحتلال وطائراته المسيرة ورصاص قطاع الطرق، وتهديداتهم، واعتداءاتهم، سِرت بين دوار التحلية شرق خان يونس وصولا لمنطقة الشيخ ناصر ودخولا إلى بني سهيلا، جميعها مصنفة بـ"مناطق قتال خطيرة"، لكني عدت خالي الوفاض بسبب عدم مقدرتي على مجاراة الأسعار الفاحشة، وكذلك معظم سكان غزة الذين باتوا يواجهون المصير ذاته.
والمفارقة الموجعة أن قطاع الطرق اتخذوا من مناطق القتال الخطيرة مقرا لأنشطتهم اللصوصية ومكانا لتخزين مسروقاتهم من الطحين والمساعدات التي تعمل على توفيرها مؤسسات الإغاثة الدولية، ليصبح مخزون الطعام حكرًا عليهم وتحت حماية الاحتلال نفسه.
عدت إلى أطفالي المجوعين بعد ساعات طويلة من البحث، خالي اليدين، لم أتمكن من الحصول فيها على أي طعام لهم، وباتوا ليلتهم يصارعون الجوع والقصف وحالة النزوح المفروضة عليهم.
اليوم التالي
سمعت من الناس أن في الجنوب الغربي من خان يونس -منطقة الإقليمي والشاكوش- أسعار الغذاء ما زالت معقولة نسبيا بفضل بعض المساعدات الأميركية، فانطلقت مشيا على الأقدام لمسافة تتجاوز 3 كيلومترات باحثا مرة أخرى عن طعام يسد جوع أطفالي، كنت أكرر لكل من ألقاه عبارة "طحين للبيع"، أبحث عن أي أمل، حتى وصلت قرب خطوط التماس، حيث تقصف دبابات الاحتلال المناطق القريبة من شمالي وغربي رفح.
أجبرت على التحرك من منطقة لأخرى، لعلي أتمكن من الحصول على طحين، أترقب خبرا عن فتح مركز "موراغ" لتوزيع المساعدات مع حلول المساء، رغم أن تلك الرحلات محفوفة دوما بمجازر ترتكبها قوات الاحتلال ومرتزقة الشركات الأمنية الأجنبية ضد طالبي المساعدات، فإن التجربة نفسها لا يمكن وصفها إلا بالمرعبة.
اتجهت إلى شارع المسلخ -يعرف أيضا بشارع الطينة- الذي يربط بين جنوب خان يونس بمنطقة المقابر ويمتد حتى شارع موراغ الفاصل بين خان يونس ورفح.
كان المشهد أمامي صادما بكل المقاييس، عشرات الآلاف من الأشخاص المجوعين من كل الفئات العمرية -الأطفال، النساء، الشبان، كبار السن- بعضهم يحمل سكينا في يده وآخرون يحملون أكياسا فارغة.

وصلت إلى منطقة ممنوع تجاوزها، وتجمع عشرات الآلاف تحت الشمس المحرقة، وتحركت مسيرتان للاحتلال فوق الجموع الذين تحرك بعضهم جنوبا عدة أمتار، وإذ بالآلاف أمامي يجرون هنا وهناك، ومنهم من ينبطح على الأرض أو يحتمي بكومة تراب.
سمعت صفير قذائف الدبابات لتسقط واحدة على بعد أمتار قليلة من الحشود الجائعة وتسقط ثالثة ورابعة، وشاهدت دبابة وناقلة جند وعددا من جيبات الهامر التابعة للجيش الإسرائيلي تتحرك إلى منطقة مرتفعة على بعد نحو 500 متر وتبدأ بإطلاق النار على كل من يتحرك، شاهدت أطفالا يصابون برصاص القناصة الذين اعتلى بعضهم السواتر الترابية. بقينا نحو ساعتين على وضعية الاحتماء، بينما أزيز الرصاص وصفير القذائف لا يتوقف.
إعلان
وقبيل الساعة الـ5 عصرا، بدأ العشرات يلوحون بأكياسهم الفارغة البيضاء، لكن الدبابة والجنود واصلوا إطلاق النار. أدركت أن الهرولة نحو مركز المساعدات بدأت، فاندفعت مع عشرات الآلاف (أقدّرهم بـ100 ألف شخص على الأقل) أصطدم بهذا وذاك وأتعثر هنا وهناك بحجارة أو ركام منزل أو بجسد سقط متعبا، وقد غمرني غبار طيني منعني من التنفس واختنقت بشدة، فتوقفت لاهثا التقط أنفاسي.

واصلت دبابة الاحتلال وجنوده إطلاق النار على الحشود التي تجرى هائمة على وجهها ضمن مسارات موت محددة، حيث يُدفعون قسرا للجري لمسافات تصل بعضها إلى 3-5 كيلومترات في شوارع مدمرة تحيط بها أسلاك شائكة مرتفعة وقناصة.
ألقت الطائرات المسيّرة القنابل والرصاص، ليتجلى أمامك مشهد دموي ووحشي في مساحة ضيقة -لا تتجاوز 200 متر مربع- ألقيت فيها عشرات صناديق المساعدات، وسط أبراج مراقبة ورشاشات آلية تطلق النار، ومرتزقة يضع أحدهم علما أميركيا واضحا على صدره، وآخر يرتدي خوذة ويحمل مكبر صوت ويتحدث العربية بلهجة غير فلسطينية، بينما عشرات الآلاف يتدافعون للحصول على حفنة عدس أو أرز أو علبة من الصفيح فيها بقايا طعام.

وبين كل هذا، أطفال ونساء وكبار السن لا يمكنهم حتى الحصول على بقايا الكراتين الورقية والأخشاب ليتمكنوا من الاستفادة منها كوقود، يجمعون بقايا من حفنات طحين تناثرت على الأرض المغطاة بالطين والصخور أو حبات من العدس والأرز.
المشهد كان قاسيا مشحونا بسوداوية وحالة من الإحباط واليأس لم ألمسها طوال حياتي، وأنا أدخل منتصف العقد السادس من عمري (55 عاما).
ومع ذلك حاولت طول رحلة العودة من ساحة الموت والإذلال -التي يطلق عليها المساعدات الأميركية- أن أبحث عمن اشتري منه بعض الطحين والأرز لأطفالي المجوعين، وبدأت تقفز أمامي أرقام خيالية ممن تمكنوا من الحصول على المساعدات، وهم شبان تمكنوا من الوصول أولا للمساعدات وأخذوا منها كل ما يقدرون على حملة.
لأعود أخيرا لأطفالي ومعي فقط كيلوغرامان من الطحين حصلت عليهما بصعوبة شديدة من أحدهم الذي باعني إياها طبعا بسعر مرتفع مستغلا حاجتي الشديدة.
كان مشهد عشرات الآلاف الذين يلفهم الغبار والدخان وهم يعودون فارغي الأيدي من رحلة الموت مفجعا، وكثير ممن التقيتهم قال إنه يأتي يوميا ويعود بلا شيء، يحاول مرة تلو أخرى لعله يظفر بطعام لأسرته في نهاية كل نهار.
هنا غزة
غزة اليوم تغرق في دمائها، وأشلائها، وركام بيوتها، أما دوامة الأزمات فقد غمرت حتى أنفاسنا. أصبح التجويع هو الفاعل الأكبر، متقاطعا مع تدمير كل مقدرات الاقتصاد والزراعة، ليجد الفلسطيني نفسه في مواجهة غلاء فاحش، يقوده تجار كبار ينسقون مع الاحتلال لقاء رشاوى بملايين الشواكل، لجلب بضائع تُباع بأسعار خيالية أمام حركة شرائية منهارة.
وزاد من فداحة المشهد احتكار الصرافين السيولة النقدية وتحويلها لمشروع ربوي قاتل.
كل ذلك يحدث وسط تدمير منهجي لكل أدوات الصمود: من مطابخ توزيع الطعام، والمبادرين الشرفاء، إلى محطات توزيع المياه، وصولا لاختفاء الوقود والحطب، حتى صار الأطفال والنساء يبحثون في القمامة والشوارع عن قطع بلاستيك والنايلون لإشعالها للطهي، وحتى هذه أضحت سلعة غالية الثمن.
0 تعليق