في وقت تتقدم فيه القوات الروسية ميدانيًا داخل أوكرانيا وتتعزز فيه المكاسب العسكرية لموسكو، يجد حلف شمال الأطلسي (الناتو) نفسه أمام تحوّل استراتيجي عميق يُعيد تشكيل أولوياته الدفاعية، ويرفع من وتيرة الإنفاق العسكري لأعضائه.
وفي مقابل ذلك، لا تتأخر روسيا عن تصعيد خطابها السياسي والتحذيري، وسط سباق تسلح يهدد استقرار أوروبا برمتها، ويقوّض ما تبقى من معاهدات نزع السلاح.
تصعيد متبادل.. وتوقيت حساس
في ظل ما تصفه موسكو بـ"التهديد الغربي المتصاعد"، وجه وزير الخارجية الروس سيرغي لافروف تحذيرا غير مسبوق من أن الزيادة المستمرة في إنفاق الناتو لا تعزز الأمن، بل قد تكون الوصفة السريعة لانهيار الحلف من الداخل.
التحذير الروسي يأتي في وقت تكثف فيه واشنطن ضغوطها على الحلفاء الأوروبيين لمضاعفة الإنفاق الدفاعي، وهو ما بدا واضحًا مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض واتباعه نهجًا أكثر براغماتية وتكلفة تجاه الشراكة الدفاعية عبر الأطلسي.
لافروف أعلن أن موسكو تخطط لخفض إنفاقها الدفاعي بعد أن رفعت ميزانيتها العسكرية في 2025 لتصل إلى 6.3% من الناتج المحلي، في وقت يرى فيه مراقبون أن هذا الرقم المعلن لا يعكس الإنفاق الفعلي، خاصة في ظل الحرب المفتوحة على عدة جبهات أوكرانية واستخدام روسيا لقدراتها التكنولوجية والعسكرية بشكل مكثف.
ألمانيا تتحرك.. وبرلين تستفز موسكو
وفي مؤشر واضح على استمرار الغرب في توجيه رسائل دعم حازمة لكييف، زار وزير الخارجية الألماني العاصمة الأوكرانية، مؤكدًا أن "التعاون في مجال التسلح هو الورقة الرابحة"، كاشفًا عن خطط لتشييد مصانع أسلحة مشتركة في أوكرانيا.
هذا التحرك أثار حفيظة موسكو التي تعتبر الصناعات العسكرية المشتركة بين أوكرانيا والدول الأوروبية تصعيدًا مباشرًا وخرقًا لخطوطها الحمراء.
ويقول الكاتب والباحث السياسي هلال العبيدي في حديثه لسكاي نيوز عربية، إن "القلق الأوروبي مبرر، فالتهديدات الروسية لدول البلطيق تعود لعقود طويلة، منذ حرب الشتاء مع فنلندا في القرن الماضي.
اليوم، نشهد استدعاءً لتلك الذاكرة القاتمة من خلال تصعيد روسي يستند إلى ذرائع شبيهة بتلك التي استخدمت لغزو أوكرانيا، كوجود أقليات ناطقة بالروسية."
سباق الألغام.. وانهيار اتفاقية أوتاوا
الأكثر إثارة للقلق أن عديدًا من دول الناتو الشرقية بدأت باتخاذ إجراءات دفاعية غير مسبوقة، من بينها زرع ملايين الألغام المضادة للأفراد والدبابات على حدودها مع روسيا وبيلاروسيا. الدول التي دخلت على خط التصعيد هي فنلندا، إستونيا، ليتوانيا، لاتفيا، وبولندا—all انسحبت من معاهدة أوتاوا التي تحظر استخدام الألغام الأرضية، وها هي أوكرانيا تحذو حذوها.
وقد وقع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مرسومًا يقضي بانسحاب بلاده من الاتفاقية، متهمًا روسيا باستخدام الألغام بشكل واسع ضد العسكريين والمدنيين. وتشير دراسات عسكرية إلى أن روسيا تمتلك أكثر من 26 مليون لغم أرضي، وهو ما يجعلها الدولة الأولى عالميًا من حيث هذا النوع من الأسلحة.
القلق من ممر سوالكي.. ومخاوف البلطيق
المخاوف الأمنية تتزايد أيضًا حول "ممر سوالكي" بين ليتوانيا وبولندا، والذي يفصل دول البلطيق عن بقية أوروبا ويعد منطقة استراتيجية تحاول موسكو تأمينها لوصلها بمدينة كالينينغراد الروسية على بحر البلطيق.
هذا التهديد الجغرافي يزيد من هواجس التوسع الروسي، ويعزز من مقاربة الدفاع المشترك في حلف الناتو.
يرى العبيدي أن "أي تهديد بسيط يمكن أن يؤدي إلى اجتياح سريع لهذه الدول الصغيرة. لذلك أصبحت الرهانات عالية، والحماية الجماعية وفق المادة الخامسة من ميثاق الناتو هي خط الدفاع الوحيد الممكن."
بين التفاوض وسباق التسلح
ورغم أن المؤشرات كلها تميل نحو التصعيد، إلا أن كثيرًا من المحللين يجمعون على أن الحل في النهاية لا يمكن أن يكون عسكريًا.
يقول العبيدي: "الروس حققوا مكاسب على الأرض، لكنهم يتجاهلون أن أوروبا جارة جغرافية مباشرة، وأن الاستمرار في النهج العسكري لن ينتج إلا مزيدًا من سباقات التسلح، وصدامًا مباشرًا غير مسبوق منذ الحرب الباردة."
وتابع: "الحديث عن مصانع ذخائر جديدة، وخطط ألمانية-أوكرانية لتصنيع الأسلحة، كلها تؤشر إلى أننا أمام مرحلة خطرة من الصراع الجيوسياسي. وهذا مسار خطير على الأمن العالمي، وليس الأوروبي فقط."
الغاز... سلاح في الحرب الباردة الجديدة
في الخلفية، يبقى الغاز الروسي جزءًا من معادلة التوتر. فبينما تحاول أوروبا الفكاك من تبعيتها لغاز موسكو، لا تزال روسيا تستخدم هذا الشريان الحيوي كورقة في الحرب.
ورغم أن الإمدادات عبر أوكرانيا ما زالت مستمرة جزئيًا، فإن الرهان الأوروبي انتقل إلى تنويع المصادر، ما عدّته موسكو انقلابًا اقتصاديًا سياسيًا.
إلى أين؟
بين تهديدات موسكو وتحذيرات لافروف، وتحركات الناتو العسكرية، بات من الواضح أن القارة الأوروبية تعيش على وقع أزمة ثقة متفاقمة مع جارتها الشرقية.
الأوروبيون يدفعون ثمن الانفصال عن روسيا، والروس يوسّعون نطاق الجبهة. ومن هنا، فإن الخيار الوحيد المتاح قد يكون العودة إلى طاولة المفاوضات، قبل أن يتحول التصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري إلى مواجهة مفتوحة يصعب إيقافها.
0 تعليق