روبيان السرعوف ليس مجرد كائن مفصلي ملون، بل إنه آلة ضرب دقيقة، يوجه لكمات أقوى من رصاصة بندقية، ولطالما أدهش العلماء في هذا السياق خاصة أن طوله يتراوح بين 10 إلى 18 سنتيمترا لمعظم الأنواع.
يملك هذا الكائن زوائد أمامية تُسمى مطرقة أو رمّاحة حسب النوع، يستخدمها للهجوم على فريسته بضربة سريعة، وكأنها سيارة تجري بسرعة تصل إلى 80 كيلومترا في الساعة.
كذلك تولد الضربة طاقة عالية كافية لتحطيم أصداف الرخويات أو كسر الزجاج السميك في أحواض الأسماك، إذ يُقدّر الضغط الناتج عن الضربة بأكثر من 1500 نيوتن.
ولفهم مدى القوة (نسبيا)، فإن ملاكما قويا مثل مايك تايسون أو محمد علي يمكن أن يوجه لكمة بقوة تتراوح بين 300 إلى 600 نيوتن تقريبا، حسب وزنه وتكتيك الضربة، وقد أظهرت بعض الأرصاد الحديثة على ملاكمين محترفين أن أقوى اللكمات البشرية المسجلة وصلت إلى حوالي ألف نيوتن، في ظروف خاصة.
هيكل بوليغاند
واليوم، قرر فريق من العلماء محاكاة بنيته المجهرية لصنع مادة ثورية جديدة قادرة على امتصاص الصدمات العالية، مع إمكانية استخدامها في الفضاء والدروع والزجاج المقاوم للرصاص.
وقاد البحث كل من الدكتور إدوين تشان والباحثة سوجين لي من المعهد الوطني للمعايير والتقنية في الولايات المتحدة، وأراد الفريق فهم سر صلابة طرف روبيان السرعوف، الذي لا يتحطم رغم الضربات العنيفة، ووجدوا أن السر يكمن في بنية مجهرية مدهشة تُعرف باسم "هيكل بوليغاند"، حسب بيان صحفي رسمي صادر من المعهد.
هذا الهيكل يتكوّن من صفائح صغيرة للغاية، مرتبة على شكل طبقات تدور تدريجيا، مما يمنحها مزيجا فريدا من القوة والمرونة، فالبنية ليست قاسية بالكامل ولا لينة بالكامل، بل تعيد توجيه الطاقة بدلا من أن تتشقق أو تتحطم.
إعلان
نتائج مثيرة للانتباه
وحسب الدراسة، التي نشرت في دورية "بي إن إيه إس"، قام الباحثون ببناء هيكل شبيه صناعيا باستخدام بلورات نانوية من السليلوز، وهي مادة مشتقة من الألياف النباتية، ثم رتّبت البلورات بشكل ذاتي إلى صفائح دقيقة، لتُحاكي الهيكل الأصلي لروبيان السرعوف. ولجعل المادة أكثر فعالية، استخدم الفريق موجات صوتية عالية التردد لتعديل صفات البلورات قبل أن تركب كأغشية رقيقة.
ولاختبار صلابة هذا الهيكل، تم إطلاق جسيمات صغيرة من السيليكا بسرعة تصل إلى 600 متر/ثانية (أي ضعف سرعة رصاصة بندقية) نحو هذه الأغشية، باستخدام ليزر عالي الكثافة، ثم سجل العلماء تأثير الاصطدام بكاميرات فائق السرعة.
وجاءت النتائج لتُظهر أن بعض الجسيمات أحدثت انبعاجا دائما في المادة، لكن بعضها الآخر ارتد مثل كرة التنس بعد اصطدامها، في ظاهرة تُظهر أن المادة لم تتكسر، بل أعادت توزيع الطاقة.
وتبيّن للعلماء أن الطريقة التي تم بها ترتيب الطبقات، بالإضافة إلى سماكتها وكثافتها، تؤثر تأثيرا مباشرا في طريقة امتصاص الصدمة، فالطبقات الرقيقة تمتص الطاقة مباشرة، لكنها تحتفظ بتشوه دائم، أما الطبقات السميكة فتُعيد توجيه موجات الصدمة عبر الطبقات، ما يقلل التلف ويزيد من مرونة الرد.
هذا التفاعل بين البنية والصدمة يشبه دفاعا متقنا في حلبة ملاكمة، فبدلا من تلقي الضربة كاملة، تُمتص الضربة ثم يُعاد توجيهها للخارج.
تطبيقات واعدة
ووفقا للدراسة، فإن هذه المادة لا تقتصر فائدتها على الدراسة الأكاديمية فقط، بل يمكنها أن تحدث ثورة في تصميم المواد الواقية في عدة مجالات:
الفضاء: حماية المركبات والأقمار الصناعية من اصطدام النيازك الصغيرة والحطام الفضائي. الهندسة المدنية: تصنيع مواد مقاومة للانفجارات في المباني والبنى التحتية. الجيش والأمن: تطوير خوذ ودروع وزجاج مقاوم للرصاص بخفة غير مسبوقة. الرياضات الخطرة: خوذ ومعدات واقية أكثر مرونة وأمانا دون التضحية بالراحة.وفي النهاية، فإن هذا المشروع البحثي يُثبت مرة أخرى أن "المحاكاة الحيوية" ليست مجرد فرع ثانوي لعلوم الهندسة، بل قد تكون بوابة الثورة القادمة في المواد والتقنيات المتقدمة.
0 تعليق