مثّلت الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة -منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023- نقطة تحول بارزة في العلاقات والمواقف الدولية، خاصة في أوروبا. وأدى تصاعد مظاهر الإبادة الجماعية وسياسة التجويع في غزة إلى سلسلة من الانتقادات والتحذيرات الدولية لدولة الاحتلال.
ونشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة تحليلية بعنوان "أوروبا والحرب الإسرائيلية على غزة: موجة ناقدة لإسرائيل والتزام إستراتيجي بأمنها" للباحث في الشؤون الأوروبية والدولية حسام شاكر، تبرز المواقف الأوروبية من الحرب على غزة، وترصد اتجاهاتها وتحولاتها والآفاق المنظورة لهذه المواقف، بما في ذلك موجة الانتقادات الأوروبية الملحوظة نحو إسرائيل خلال عام 2025.
دعم مستمر لإسرائيل
منذ قيام إسرائيل عام 1948 وهي تحظى -ومازالت- بدعم واسع من الأوروبيين الذين يعتبرونها دولة ديمقراطية ويقدمون لها الدعم العسكري والاقتصادي. وتشمل التوجهات الأوروبية الأساسية:
أمن إسرائيل: تلتزم أوروبا بضمان أمن إسرائيل وتؤيد "حقها في الدفاع عن نفسها" مما يوفر مبررا للحملات العسكرية الإسرائيلية. رفض المقاومة الفلسطينية ودعم السلطة: يصنف الاتحاد الأوروبي حركات المقاومة الفلسطينية إرهابية، في حين يستمر في دعم السلطة الفلسطينية ماليا. حل الدولتين: تدعم أوروبا المفاوضات وسيلة لحل النزاع وتؤيد حل الدولتين، كما يتضح من مقررات الرباعية الدولية عام 2003. وقد شهد العام الماضي اعترافا منسقا من جانب إسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا بدولة فلسطين، وأوحت فرنسا وبريطانيا هذا العام بعزمهما القيام بخطوة مماثلة قريبا. معارضة الاستيطان: تعارض الدول الأوروبية بالمجمل أي إجراءات إسرائيلية أحادية الجانب بما فيها تلك التي تحاول قطع الطريق على قيام دولة فلسطينية واستهداف التجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية وشرق القدس. معارضة التهجير: تعارض أوروبا خطط تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة. التعهد بتقديم مساعدات إنسانية للشعب الفلسطيني: وتُعد الدول الأوروبية في صدارة المانحين الدوليين للسلطة الفلسطينية والوكالات الإنسانية الدولية بما فيها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).إعلان
اتجاهات في الموقف الأوروبي
تبلورت ضمن المواقف الأوروبية خلال الحرب الإسرائيلية على غزة محاور واتجاهات أساسية:
دول ناقدة لإسرائيل: مثل إيرلندا وإسبانيا وبلجيكا ومالطا وسلوفينيا والنرويج، وهي تُعبّر عن انتقادات مباشرة للسياسات الإسرائيلية، ولكنها تفتقر إلى الثقل الدولي لتغييرات فعالة. دول ذات ثقل بارز تُوجه نقدا متزايدا لإسرائيل مؤخرا: مثل فرنسا وبريطانيا ومعهما كندا وأستراليا ونيوزيلندا. دول داعمة لإسرائيل: مثل ألمانيا والنمسا وإيطاليا، وهي تتمسك بدعم السياسات الإسرائيلية وتنحاز لها بشكل واضح. دول ذات مواقف خافتة نسبيا: وإن خالف ذلك ما اشتُهر به بعضها سابقا من مواقف عُدّت إيجابية نحو القضية الفلسطينية، مثل الدول الإسكندنافية كالسويد وفنلندا.أوروبا في سياق الحرب.. دعم أولي يتآكل لاحقا
في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" سارعت أوروبا إلى منح الاحتلال الإسرائيلي غطاء سياسيا صريحا، متذرعة بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. ولكن مع اتساع رقعة المجازر وتزايد الانتهاكات التي أخذت طابع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتجويع، بدأ هذا الغطاء السياسي الممنوح للحرب يتآكل تدريجي، خصوصا مع تصاعد الغضب الجماهيري في أوروبا وحول العالم ضدها، مما أفضى إلى مواقف متأخرة ومرتبكة ظهرت ربيع وصيف 2025.
وقد أدى منع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة منذ مارس/آذار 2025، وتبني إسرائيل خطط تهجير جديدة تحت اسم "عربات جدعون" إلى موجة نقد أوروبية أوسع نسبيا، تمثلت في:
توجيه انتقادات شديدة لتجويع المدنيين، واعتبار استخدام الغذاء سلاحا "غير مقبول". إعلان العديد من المسؤولين بأوروبا أن الحرب الإسرائيلية على غزة ذهبت بعيدا وتجاوزت حدود "الدفاع عن النفس". إعلان نية بعض الدول (خصوصا بريطانيا وفرنسا) الاعتراف بدولة فلسطين وعقد مؤتمر دولي لدعم حل الدولتين. قرار الاتحاد الأوروبي مراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية. فرض عقوبات على الوزيرين الإسرائيليين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وعدد من قادة المستوطنين. صدور مواقف وتصريحات في بعض الدول الأوروبية تُعرب عن التوجه إلى فرض قيود شاملة أو جزئية على صادرات الأسلحة إلى إسرائيل. استدعاء سفراء إسرائيليين في عدد من العواصم الأوروبية لإبلاغهم رسائل اعتراض أو طلب توضيحات معينة. صدور قرارات من حكومات وسلطات محلية وهيئات دون مستوى الحكومات في بلدان أوروبية، مثل إعلان مقاطعات بلديات وهيئات إيطالية وإسبانية مثل قطع علاقات التعاون أو الشراكة أو الاستثمار أو التوأمة مع إسرائيل.
رسائل الموقف الأوروبي
ورغم أن هذه الخطوات شكلت سابقة على مستوى الخطاب السياسي الأوروبي، فإنها بقيت في غالبها رمزية وضعيفة التأثير الفعلي، مقارنة بما فرضته القارة العجوز على دول أخرى في أزمات أقل فداحة، ومع ذلك فقد بعثت هذه المواقف عموما برسائل مركزية مفادها:
القلق المتصاعد من سلوك الحكومة الإسرائيلية وقواتها ومستوطنيها، والرغبة في ضبط هذا. نزع الغطاء الداعم لاستمرار الحرب على غزة ورفض توسعها. أن الخيار العسكري لم يعد يجدي، وذلك بفعل تأثير مُخرجات الواقع الميداني العسكري المُتعثر في قطاع غزة. التبرم الأوروبي من تصاعد التكلفة الأخلاقية للإبادة الجماعية وسياسة التجويع وجرائم الحرب المشهودة للعالم أجمع. أكدت أن قيادة الاحتلال الإسرائيلي تُعاني عزلة دولية نسبيا، ولا سيما أنها تُلاحَق من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وتواجه دعوى في محكمة العدل الدولية تتهمها بالإبادة الجماعية. رفض أوروبا توجهات "الحسم" في الضفة الغربية التي تحاول إسرائيل من خلالها تقويض أي فرصة لقيام دولة فلسطينية. رفض "نوايا التهجير" والتطهير العرقي في قطاع غزة علاوة على نوايا الاستيطان المُعلنة من جانب أقطاب في حكومة نتنياهو.إعلان
ملاحظات حول الموقف الأوروبي
جاءت الموجة الناقدة لإسرائيل متأخرة، فقد أخذت أكثر من 20 شهرا من الحرب الضارية على قطاع غزة، حتى نضجت. ويمكن إيراد الملاحظات التالية بشأنها:
مثّلت المواقف الأوروبية الناقدة لإسرائيل حالة تراكمية يُعضّد بعضها بعضا. للمظاهرات والمواقف الجماهيرية في أوروبا مفعول نسبي في تراكم الضغوط نحو مراجعة السياسات والمواقف الأوروبية. تتخذ المواقف الأوروبية الناقدة للجانب الإسرائيلي طابعا لفظيا أو رمزيا ولا تتضمن إجراءات عقابية تُذكر. يتبنى الجانب الإسرائيلي منذ سنوات عدة خطابا تصعيديا حادا للغاية إزاء أي نقد أوروبي، وجرى ذلك بلا تردد بحق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والحكومة البريطانية أيضا. يُعَد قرار مراجعة "اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية" -في مايو/أيار 2025- مثالا واضحا على الطابع الرمزي أو الشكلي لكثير من الانتقادات الأوروبية. العقوبات الأوروبية المحتملة تركز على المستوطنين أو وزراء محسوبين على الاستيطان، وليس على حكومة دولة تمارس قواتها إبادة جماعية، بالتزامن مع إعفاء جيش الاحتلال والحكومة من العقوبات. تبدو الحكومة الإسرائيلية مطمئنة إلى أن أوروبا الموحدة، وإن أطلقت تعبيرات ناقدة لها أو قلقة منها، إلا أنها لن تُرتب على ذلك خطوات ذات طابع عقابي. ثمة فجوة واضحة بين التعبيرات اللفظية الناقدة من جانب عواصم أوروبية، وبين الخطوات العملية التي يُفترض أن تستجيب لذلك، كما اتضح مثلا في موقف بريطانيا فيما يتعلق بصادرات السلاح لإسرائيلي، كما لم تفتح الحكومات الأوروبية ملفات مواطنيها الذين يخدمون في جيش الاحتلال. لا يُقلل ضعف المفعول العملي للمواقف الأوروبية من تأثيرات معنوية ضاغطة توقعها على الجانب الإسرائيلي الذي يواجه مخاطر العزلة النسبية في العالم. تحاول أوروبا عبر بعض المواقف والتعبيرات الناقدة أن تنأى بذاتها عن سياسات وانتهاكات إسرائيلية متصاعدة ذات طابع فاشي أو وحشي وجرائم حرب يشهدها العالم، خاصة مع تراجع فاعلية الاصطفاف الغربي خلف القيادة الأميركية في عهد دونالد ترامب. ركزت كثير من المواقف الأوروبية الناقدة، بدءا من مايو/أيار 2025، على سياسة التجويع المشددة وتجاهلت سياسة جيش الاحتلال في القتل الجماعي. كما وجهت انتقاداتها نحو "عُنف المستوطنين" في الضفة دون الإشارة تقريبا إلى ما يقترفه جيش الاحتلال في الضفة وغزة من انتهاكات جسيمة بلغت مبلغ جرائم الحرب. أدى منع إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة إلى تعطيل مسعى "الغسيل الأخلاقي" لسياسات أوروبية مُنحازة لم يعد بوسعها إظهار "استجابات إنسانية" معهودة. ما زالت أوروبا السياسية -مع استثناءات قليلة من قبيل الحكومة الإسبانية- تمتنع عن توصيف سياسات الاحتلال بـ"الإبادة الجماعية" و"التطهير العرقي" و"جرائم الحرب" و"الجرائم ضد الإنسانية" فضلًا عن "الإرهاب" و"الترويع" و"عمل وحشي". ركزت المواقف الأوروبية على إظهار التمسك بـ"حل الدولتين" وبصفة معزولة عن أي مواقف جادة في مواجهة الحرب. تبدو أوروبا معنية باستمرار منح الأفق السياسي للشعب الفلسطيني عبر الخيار السلمي وإن تبددت فرصه الواقعية. تراجع الانشغال الأوروبي بغزة مع بدء الحرب الإسرائيلية على إيران، ومن ذلك مثلا إعلان الرئاسة الفرنسية تأجيل مؤتمر نيويورك لدعم حل الدولتين. مآلات الحرب على إيران ستُضعف فرص الضغط الأوروبي على القيادة الإسرائيلية التي قد تتعزز مكانتها عند حلفائها الغربيين. لا مؤشرات على تراجع الالتزام الأوروبي المعلن والمستقر نحو دولة الاحتلال الإسرائيلي تحت شعار دعم "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".
0 تعليق