تكشف المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية عن معضلة إستراتيجية غير مسبوقة تزامنا مع دخول المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل يومها السادس، تتمثل في استنزاف ترسانة الدفاع الجوي، الأمر الذي دفع الجيش الإسرائيلي إلى تبني سياسة جديدة تُعرف بـ"اقتصاد الاعتراض"، وتقوم على استخدام صواريخ دفاعية بحسب جدوى الهدف ونوع التهديد.
ووفق تقرير نشرته صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية العبرية، فإن وتيرة إطلاق الصواريخ الإيرانية خلال الأيام الماضية، والتي تجاوزت حتى الآن 350-400 صاروخ، قد فرضت على سلاح الجو الإسرائيلي ومنظومة الدفاع الجوي اعتماد منهجية "الاعتراض الانتقائي" والتكيّف مع الواقع الميداني.
وتزعم إسرائيل أن 90% من تلك الصواريخ تم اعتراضها، لكن بعض الصواريخ التي تسللت عبر طبقات الحماية الجوية تسببت بأضرار كبيرة في وسط البلاد ومنطقة حيفا، وأدت إلى مقتل 24 شخصا على الأقل.
اقتصاد الذخائر لأن القادم أسوأ
وبحسب العميد الاحتياطي ران كوخاف، القائد السابق لمديرية الدفاع الجوي، فإن "إدارة اقتصاد الذخائر" أصبحت أحد المفاتيح الرئيسية في العقيدة الدفاعية الإسرائيلية في هذه المرحلة من الحرب، خاصة بعد أن أصبحت الحرب مع إيران مفتوحة من الجو، ومرشحة للاستمرار لأسابيع وربما أشهر.
وأوضح كوخاف أن الصواريخ الاعتراضية تختلف في كلفتها وأولويات استخدامها، فبينما تُعد صواريخ القبة الحديدية رخيصة نسبيا ويتم تصنيعها بكثافة، فإن منظومات "السهم 2″ و"السهم 3″ و"مقلاع داود" تُعتبر ذخائر إستراتيجية مرتفعة الكلفة، تُنتج بأعداد محدودة. ولذلك، يتعيّن على الجيش توجيهها نحو التهديدات الأكثر خطورة.
ويؤكد التقرير أن إدارة اقتصاد الاعتراض تعتمد على قائمة طويلة من المؤشرات، وكثير منها سري، تشمل -من بين أمور أخرى- درجة الكثافة السكانية في المنطقة التي سيسقط فيها الصاروخ، حيث إن احتمالية وقوع إصابات وأضرار في مدينة في وسط إسرائيل أعلى بكثير من احتمال وقوع إصابات وأضرار في مجتمع صغير ومعزول نسبيا.
إعلان
وتشمل هذه الاعتبارات أيضا موقع المرافق الإستراتيجية، وتلك الضرورية لاستمرار قتالية الجيش الإسرائيلي، والكلفة الاقتصادية لعملية الاعتراض.
ويقول كوخاف: "في مثل هذه العمليات، هناك معضلات على كل المستويات وتشمل أيضا تكييف الذخائر مع الهدف". ويوضح ذلك بالقول "إذا علمنا أنه يمكن اعتراض صاروخ تم إطلاقه من لبنان باتجاه نهاريا شمال إسرائيل، وكان الخيار ما بين استخدام السهم 2 والسهم 3 أو مقلاع داود أو القبة الحديدية، فإننا نفضل توجيه صاروخ القبة الحديدية الاعتراضي نحوه".
ومنذ بداية الحرب، تكشف إسرائيل عن تعرّضها لقصف صاروخي غير مسبوق من إيران، حيث وصفت شدة الضربات بأنها الأقسى منذ تأسيس الدولة. وتشير التقديرات إلى أن معظم الصواريخ التي أُطلقت كانت من طراز "شهاب 3" أو مشتقاته، مثل "عماد"، وهي قادرة على إصابة أهداف في العمق الإسرائيلي بدقة نسبية.
لكن المؤسسة الأمنية في تل أبيب تحذّر من أن هذه الصواريخ ليست الأقوى في ترسانة إيران، وتقول التقديرات إن طهران لم تستخدم بعد الصواريخ الأكثر فتكا، مثل "خورمشهر 4" القادر على حمل رأس حربي يبلغ وزنه نحو ألف كيلوغرام، إضافة إلى صواريخ كروز بمدى يصل إلى 1700 كيلومتر.
ويعني ذلك، وفق خبراء عسكريين، أن ما تعرضت له إسرائيل حتى الآن قد يكون مجرد مقدمة لمرحلة أشد خطورة.
ويؤكد أحد المسؤولين الأمنيين في التقرير أن "كل عملية اعتراض تُدرس بعناية، مع إدارة محسوبة للمخزون، لأن الصواريخ الاعتراضية ليست موردا لا نهائيا، ولأننا لا نعلم متى ينتهي هذا التصعيد".
طوارئ في صناعات الدفاع
وردا على هذا التهديد المتصاعد، تعمل شركات الصناعات الدفاعية الإسرائيلية على رفع إنتاج صواريخ الاعتراض إلى أقصى حد ممكن. وتمضي الصناعات الجوية الإسرائيلية حاليا في تنفيذ طلبات شراء ضخمة من وزارة الدفاع، تشمل مليارات الشواكل لشراء صواريخ "السهم 3″، التي تُستخدم الآن بكثافة في اعتراض الصواريخ الباليستية بعيدة المدى.
وبحسب كالكاليست، فإن سعر الصاروخ الواحد من طراز "السهم 3" يبلغ حوالي 2.5 مليون دولار، وقد أصبحت هذه المنظومة واحدة من الأعمدة الأساسية في الدفاع عن المجال الجوي الإسرائيلي، بالتوازي مع منظومات "مقلاع داود" والقبة الحديدية.
وتشير الصحيفة إلى أن الصناعات الجوية تعمل أيضا على تلبية طلبات خارجية، خاصة لسلاح الجو الألماني، الذي تعاقد مع إسرائيل في صفقة تبلغ نحو 4 مليارات دولار.
كما تعمل شركة رافائيل للأنظمة الدفاعية المتطورة على تطوير وتحسين أداء "مقلاع داود"، الذي لم يُصمّم في الأصل لاعتراض الصواريخ الباليستية الثقيلة، لكن جرى تكييفه مؤخرا ليكون جزءا من طبقات الدفاع المتعددة.
وحسب التقرير، فإن المنظومة نجحت بالفعل خلال الأيام الأخيرة في اعتراض بعض الصواريخ الإيرانية بعيدة المدى.
دعم أميركي بطبقات إضافية
وفي الخلفية، تعمل الولايات المتحدة على تعزيز قدرات الدفاع الجوي الإسرائيلي، إذ نشرت بطاريتي ثاد المتقدمة قبل عدة أشهر، تحسبا للتصعيد مع إيران.
كما تساهم المدمرات الأميركية العاملة في البحر المتوسط في التصدي للصواريخ الإيرانية، من خلال إطلاق صواريخ "إس إم-3" ضمن منظومة البحرية.
إعلان
ووفق مصادر عسكرية، فإن التعاون الوثيق بين تل أبيب وواشنطن في هذا المجال قد حدّ من تأثير الضربات الصاروخية الإيرانية، لا سيما في المراحل الأولى من الحرب، ووفّر "سقف حماية إضافي" لأهداف حيوية في البلاد.
وبموازاة الدفاعات الجوية، يعتمد سلاح الجو الإسرائيلي على تنفيذ هجمات استباقية داخل إيران، تستهدف منصات الإطلاق ومصانع إنتاج الصواريخ. ويقول الجيش الإسرائيلي إنه بات يمتلك "تفوقا جويا شبه كامل" فوق المجال الإيراني، الأمر الذي يتيح لطائراتها المقاتلة والطائرات المسيرة تنفيذ ضربات استباقية ضد الصواريخ قبل إطلاقها.
ويشير التقرير إلى أن سلاح الجو استهدف مؤخرا بنى تحتية لصناعة الوقود الصلب، بما في ذلك مصانع متخصصة في تصنيع الصواريخ، مما أدى إلى تراجع قدرة إيران الإنتاجية، خاصة في ما يخص الصواريخ التي تعمل بالوقود الصلب، والتي تُعد أكثر خطورة من تلك التي تستخدم الوقود السائل، بسبب سرعة تجهيزها وصعوبة رصدها.
الجبهة الداخلية.. خطر متزايد
ورغم هذه الجهود الهائلة، فإن المخاوف من خرق دفاعات إسرائيل الجوية تبقى قائمة. فقد أسفر سقوط صاروخ إيراني مؤخرا على مبنى سكني في بيتح تكفا عن مقتل شخصين، رغم وجودهما في غرفة آمنة.
وتشير قيادة الجبهة الداخلية إلى أن الغرف الآمنة ليست مُعدة لتحمّل ضربة مباشرة من صاروخ يبلغ وزنه مئات الكيلوغرامات، إلا أن احتمال وقوع مثل هذه الضربات لا يزال نادرا.
ويقول ضابط رفيع في الجبهة الداخلية إن مقاومة ضربة مباشرة من هذا النوع تتطلب بناء ملاجئ بسمك 3 أمتار من الخرسانة المسلحة، وهو ما لا يتوفر في الغالبية العظمى من الأبنية السكنية.
ومع ذلك، تؤكد القيادة العسكرية أن التعليمات الموجهة للسكان لم تتغير، ولن تتغير حتى إن تم استخدام صواريخ أثقل، "لأن البدائل غير عملية"، على حد تعبيرها.
ورغم حجم الدمار، تعتبر المؤسسة الأمنية أن الوضع حتى الآن لا يزال تحت السيطرة. وينقل التقرير عن مصادر عسكرية زعمها أن السيناريوهات التي طُرحت على المجلس الوزاري الأمني قبل بداية الحرب توقعت مقتل ما بين 800 شخص و4 آلاف شخص في حال تعرضت إسرائيل لوابل صاروخي ثقيل، وهو ما لم يحدث بعد.
لكن ضابطا إسرائيليا كبيرا استدرك على ذلك بالقول إن "الحرب لا تزال مستمرة، وربما نحن فقط في بداياتها. وحتى اللحظة، نحن عند 10% فقط من أدنى التقديرات التي تم تقديمها للقيادة السياسية. ولكن صاروخا ثقيلا واحدا قد يغير المعادلة كليا".
0 تعليق