مع تصاعد حدة التوترات في الشرق الأوسط وتبادل الضربات بين إسرائيل وإيران على مدار الثلاثة أيام الماضية، منذ فجر الجمعة، تعيش الأسواق العالمية حالة من الترقب والتأهب، في مشهد يؤكد دور العوامل الجيوسياسية كمحرّك قوي لاتجاهات المال والاستثمار.
فيما تبقى الضربات المتبادلة بين قوتين إقليميتين بحجم طهران وتل أبيب عنصراً ضاغطاً على موازين العرض والطلب في أسواق الطاقة، ومحفّزاً لتحولات واسعة في سلوك المستثمرين حول العالم. وفي مثل هذه الأوقات، تعيد الأسواق ترتيب أولوياتها، وتُوجّه السيولة إلى ما يُعرف بالأصول الآمنة أو التحوطية، في محاولة لحماية القيمة وتفادي مخاطر الخسارة.
ومع اشتداد التوتر، يبدأ سباق غير معلن نحو الملاذات التي أثبتت تاريخياً قدرتها على الصمود في وجه الأزمات، بينما تظهر أيضاً أصول بديلة تحاول فرض نفسها على الخريطة، لكنها لا تزال تفتقر إلى الإجماع.
التحوّلات الناتجة عن الصراعات الجيوسياسية ليست مجرّد ردود فعل آنية، بل تعبّر عن رؤى استثمارية عميقة تستند إلى حسابات المخاطر والفرص، وتكشف كثيراً عن مزاج الأسواق العالمي. وفي هذا السياق، لا يقتصر التأثر على أدوات تقليدية مثل الذهب، بل يمتد إلى أدوات رقمية ناشئة مثل العملات المشفرة، التي بدأت تجد موطئ قدم في أوقات الأزمات، لكنها في الوقت نفسه لا تخلو من التقلبات والشكوك.
أبرز الأصول
استاذ الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، يقول لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
في أوقات التوترات الجيوسياسية، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، تشهد الأسواق المالية تحولات حادة وسريعة تعكس حالة عدم اليقين والمخاوف من امتداد الصراع إلى مناطق أوسع، أو تأثيره المباشر على إمدادات الطاقة العالمية. في قلب هذه التحولات، تبرز ثلاثة أنواع من الأصول كأكبر المستفيدين: الذهب والنفط والعملات المشفرة، لكن كل منها لأسباب مختلفة وبدرجة متفاوتة من الاستدامة.ويضيف: "فيما يخص الذهب، فهو يظل الملاذ الآمن الكلاسيكي، فكلما اشتدت الأزمات وتزايد الحديث عن احتمالات تصاعد الحرب أو انهيار أنظمة إقليمية، تتدفق السيولة العالمية إلى المعدن الأصفر، مدفوعة بعامل الثقة التاريخية فيه كأداة لحفظ القيمة ضد تقلبات الأسواق والعملات. ومع كل تصعيد، يقفز سعر الأونصة بسبب تخارج المستثمرين من أسواق الأسهم والسندات وتحولهم إلى الذهب كتحوط طبيعي".
أما النفط، فيشير الإدريسي إلى أنه يتأثر مباشرة بالبنية الجغرافية والسياسية للشرق الأوسط، إذ أن جزءاً كبيراً من الإنتاج العالمي يأتي من هذه المنطقة، خاصة من دول الخليج، لافتاً إلى أن أي تهديد فعلي أو متوقع لإمدادات النفط، سواء عبر إغلاق مضيق هرمز أو استهداف منشآت إنتاج، يؤدي إلى قفزات حادة في الأسعار، ليس فقط بفعل الخوف من النقص بل بسبب عمليات المضاربة واسعة النطاق التي تواكب هذه الأحداث. كما أن ارتفاع أسعار النفط لا يعكس فقط حالة الذعر، بل يترجم أيضاً في زيادة تكلفة الطاقة عالمياً، ما يعمّق التضخم في الدول المستوردة ويضغط على اقتصادات هشة.
وأخيراً فيما يخص العملات المشفرة، وعلى رأسها البيتكوين، فقد تستفيد من أجواء التوتر، ولكن ليس بنفس المنطق التقليدي الذي ينطبق على الذهب. فمع تراجع الثقة في المؤسسات والأسواق التقليدية، يلجأ بعض المستثمرين إلى العملات الرقمية باعتبارها نظاماً بديلاً وخارجاً عن سيطرة الحكومات. هذه الظاهرة تزايدت مع دخول مؤسسات كبرى إلى سوق الكريبتو، ومع توقعات أن تلعب العملات الرقمية دوراً أكبر في المستقبل المالي العالمي. لكن يظل هذا الاتجاه محفوفًا بالتقلبات، فصعود البيتكوين خلال أزمات جيوسياسية ليس دائمًا مضمونًا أو مستقرًا، إذ يعتمد على المزاج الاستثماري وليس على اعتبارات العرض والطلب فقط.
ويضيف:
إن تصاعد التوترات في الشرق الأوسط يخلق بيئة غير مستقرة تدفع رؤوس الأموال إلى البحث عن الأمان أو المكاسب السريعة، وكل من الذهب والنفط والعملات المشفرة يقدم هذا بطريقته الخاصة. غير أن الذهب يظل الأكثر استقراراً في الاستفادة من الصراعات، بينما يبقى النفط رهيناً بخطر التوقف المفاجئ، والعملات المشفرة متقلبة بطبيعتها، لكنها تكسب أرضًا جديدة كمخزن بديل للقيمة لدى الأجيال الجديدة والمستثمرين الباحثين عن حرية من الأنظمة المالية التقليدية.النفط يكسب
وسجلت أسعار النفط مكاسب أسبوعية قوية تتجاوز الـ 11 بالمئة الأسبوع الماضي، لا سيما بعد الدفعة التي حصلت عليها في اليومين الأخيرين قبل عطلة نهاية الأسبوع، لتصل العقود الآجلة لخام برنت إلى 74.23 دولار للبرميل يوم الجمعة، كما سجلت العقود الآجلة للخام الأميركي 72.98 دولار للبرميل، فيما واصلت صعودها القوي اليوم الاثنين مع بدء الأسبوع الجديد، تناغماً مع تصاعد التوترات في منطقة الشرق الأوسط ومع الضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران والتي تدخل يومها الرابع.
وقد تضمنت تلك الضربات استهداف وتهديد لمنشآت طاقوية قوية في إيران وإسرائيل من الطرفين بشكل متبادل، بما عزز المخاوف الأوسع نطاقاً. فيما تهدد طهران بغلق مضيق هرمز الذي يعد أحد أهم شرايين النفط في العالم، ويربط الخليج العربي ببحر العرب، ويمر به قرابة 20 مليون برميل من النفط ومشتقاته يوميا، ما يمثل نحو خمس شحنات النفط العالمية، ما يجعل محاولة إغلاقه تؤثر على أسواق الطاقة.
فيما لم يتضح بعد حجم الأضرار التي لحقت بالمنشآت، بما في ذلك حقل بارس الجنوبي في إيران الذي تعرض لضربات، وهو جزء من أحد أكبر حقول الغاز الطبيعي في العالم. كما قصفت إسرائيل مستودعًا نفطيًا رئيسيًا قرب طهران. وفي الوقت نفسه، ألحقت الصواريخ الإيرانية أضرارا بمصفاة نفط رئيسية في حيفا.
ونقلت شبكة "سي إن بي سي" الأميركية، عن رئيسة استراتيجية السلع العالمية في آر بي سي كابيتال ماركتس، هيليما كروفت، قولها في هذا السياق: "ثمة تقييمات تفيد بأنه سيكون من الصعب للغاية على الإيرانيين إغلاق مضيق هرمز، نظراً لوجود الأسطول الخامس الأميركي في البحرين.. لكنهم قادرون على استهداف ناقلات النفط هناك، ويمكنهم زرع الألغام في المضائق".
الذهب يلمع
من جانبه، يقول الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية طارق الرفاعي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن التوترات الجيوسياسية الحالية تؤثر بشكل كبير على أسعار الذهب العالمية بشكل لافت، منبهاً إلى أنه:
في ظل تصاعد الصراع الإسرائيلي الإيراني، يتجه المستثمرون بشكل متزايد نحو الذهب بدلاً من الملاذات الآمنة التقليدية مثل الدولار الأميركي أو سندات الخزانة. قد يدفع هذا التوجه نحو الملاذ الآمن عقود الذهب الآجلة إلى أعلى مستوياتها. ارتفع سعر الذهب الفوري مؤخرًا إلى ما يزيد عن 3400-3450 دولاراً للأونصة، مستفيداً من موجات قلق المستثمرين المرتبطة بالتصعيد العسكري في الشرق الأوسط. بعد الغارات الجوية الإسرائيلية وردود الفعل الإيرانية بالطائرات المسيرة أو الصواريخ، ارتفع الذهب بنسبة 1.5 بالمئة تقريباً في يوم واحد.ويرى أن ضعف الدولار ورهانات خفض أسعار الفائدة تُعززان الوضع بالنسبة للذهب (..) كما يشير في السياق نفسه إلى ارتفاع التقلبات وعدم اليقين في السوق، وهو ما يعبر عنه ارتفاع مؤشر الخوف (VIX) مؤخراً بالتزامن مع ارتفاع أسعار الذهب والنفط وسط والاضطرابات الجيوسياسية، مما عزز دور الذهب كأصل "تأميني" مالي. وفي ضوء ذلك، يتوقع وصول الذهب إلى 3500 دولار للأونصة وربما أعلى إذا استمرت التوترات.
ومع ذلك عادة ما يكون ارتفاع الأسعار الحاد الناجم عن العوامل الجيوسياسية قصير الأجل، خاصة إذا بالغت الأسواق في تسعير مخاطر الصراع.
ويؤكد بنك غولدمان ساكس توقعاته بأن عمليات الشراء القوية من البنوك المركزية سترفع سعر الذهب إلى 3700 دولار للأونصة بنهاية عام 2025 و4000 دولار بحلول منتصف عام 2026. ويتوقع بنك أوف أميركا ارتفاع سعر الذهب إلى 4000 دولار للأونصة خلال الأشهر الـ 12 المقبلة.
بين الذهب والعملات المشفرة
أما بالنسبة لـ "العملات المشفرة" فإن قيمتها انخفضت مع بداية الصراع في اليوم الأول، ويقول الرفاعي إن "هذا دليل على هذه العملات ليست ملاذات آمنة ولكن تتحرك مع أسهم قطاع التكنولوجيا".
وعن سر تفوق الذهب، تنقل منصة decrypt عن مدير الاستراتيجية والإيرادات في شركة الاستثمار الكمي في الأصول الرقمية Algoz،ستيفن ووندكي، قوله: "لم يدخل المشترون التقليديون للذهب سوق العملات المشفرة بعد.. إن مشتري الذهب مستثمرون يتجنبون المخاطرة، وسيعودون إلى الملاذ الآمن، وهو الذهب، كما يرونه، كلما نشأ صراع محتمل".
كما نقلت المنصة عن كبير محللي الأبحاث في تايغر ريسيرش،جاي جو، قوله: "يُنظر إلى البيتكوين أحياناً على أنه ملاذ آمن، ولكنه في الواقع غالباً ما يتحرك بالتوازي مع أسهم التكنولوجيا بدلاً من الذهب"، مشيراً إلى أنه "بسبب هذا الاقتران، قد يُظهر البيتكوين والذهب اتجاهات سعرية متعاكسة خلال الأزمات الجيوسياسية".
0 تعليق