فصل التحليلين السياسي والاقتصادي - هرم مصر

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. عبدالعظيم حنفي*

آدم سميث وديفيد ريكاردو وجون ستيوارت ميل، هم في نظر الكثيرين رواد علم الاقتصاد الحديث، ولكنهم أطلقوا على أنفسهم لقب الاقتصاديين السياسيين. وظل كتاب مبادئ الاقتصاد السياسي الذي ألفه جون ستيوارت ميل، هو الوثيقة الأساسية للاقتصاد السياسي، منذ صدوره عام 1848 وحتى نهاية القرن. ولم يستطع هؤلاء المنظّرون الأوائل الفصل بين عالم الاقتصاد وعالم السياسة، لكن ظهر اتجاهان أدّيا إلى فصل التحليل السياسي عن التحليل الاقتصادي: أولاً، بدأت الحكومات في الحد من سيطرتها المباشرة على الاقتصاد، ثانياً، ظهرت نظم سياسية مختلفة، حيث تحولت أوروبا من النظام الملكي، الذي كان مطبقاً في جميع بلدانها تقريباً، إلى نظم حكومية أكثر تنوعاً واعتماداً على التمثيل السياسي.
ومع أوائل القرن العشرين، أصبح الاقتصاد والسياسة علمين منفصلين، واستمر هذا الانفصال لفترة طويلة، خلال القرن العشرين، ففي ظل الكساد الكبير ومشكلات التنمية، كانت القضايا ذات الطابع الاقتصادي الخالص مقلقة بدرجة كافية لشغل اهتمام الاقتصاديين. وبالمثل كانت المشكلات السياسية لهذا العصر جسيمة للغاية – حربان عالميتان وصعود الفاشية والشيوعية – مما استلزم التركيز عليها بشكل منفصل.
ومع حلول السبعينيات من القرن العشرين، اتضح أنه من الخطأ الفصل بين المجال الاقتصادي والمجال السياسي، فقد شهد هذا العقد انهيار نظام بريتون وودز النقدي، وصدمتين في أسعار النفط، وكساداً تضخمياً، مما سلط الضوء على التداخلات بين المسائل الاقتصادية والسياسية. وأصبح الاقتصاد من مجالات السياسة ذات الأولوية، وأصبحت السياسة مرتبطة معظمها بالاقتصاد.
وترى تحليلات، أنه خلال الخمسين عاماً الأخيرة، تزايدت أهمية الاقتصاد السياسي في مجال الاقتصاد وفي مجال العلوم السياسية من خلال ثلاثة محاور:
يحلل الاقتصاد السياسي القوى السياسية المؤثرة في الاقتصاد، يؤثر الناخبون والمجموعات ذات المصلحة تأثيراً قوياً في جميع السياسات الاقتصادية تقريباً، يعمل خبراء الاقتصاد السياسي جاهدين على تحديد هذه المجموعات ومصالحها، ودور المؤسسات السياسية في إدارة نفوذ هذه المجموعات على السياسة.
يقيم الاقتصاد السياسي تأثير الاقتصاد في السياسة الاتجاهات الاقتصادية الكلية، إما أن تؤدي إلى تحسين فرص السياسيين، أو إلى القضاء على فرصهم تماماً. وعلى مستوى الاقتصاد الجزئي يمكن أن تؤثر خصائص التكتل الاقتصادي أو النشاط الاقتصادي لشركات أو صناعات معينة، في طبيعة نشاطها السياسي وتوجهه.
يستخدم الاقتصاد السياسي أدوات الاقتصاد لدراسة السياسة. يمكن اعتبار أن السياسيين يمثلون الشركات، أو أن الناخبين كالمستهلكين، أو أن الحكومات مثل مؤسسات احتكارية تقدّم السلع والخدمات للمستهلكين (الناخبين)، ويضع العلماء نماذج للتفاعلات السياسية – الاقتصادية، للتوصل إلى فهم نظري أدق للسمات الأساسية المؤثرة في السياسات.
وقد أثرت هذه المحاور الثلاثة تأثيراً عميقاً في العلماء وصناع السياسات، ويمثل علم الاقتصاد السياسي مصدراً لا ينضب سواء بالنسبة للمحللين، الذين يعكفون على دراسة الآليات التي تحكم المجتمعات أو للراغبين في تغيير المجتمع.
ولاحظ المحللون أن الحكومات تحاول دفع عجلة الاقتصاد قبل الانتخابات، بحيث تنشأ فترت هبوط وارتفاع في النشاط الاقتصادي قرب انعقاد الانتخابات، أو ما يطلق عليه «الدورات الاقتصادية السياسية». وبالمثل تؤثر الأوضاع الاقتصادية تأثيراً قوياً في الانتخابات، فقد أشار خبراء الاقتصاد السياسي إلى حقيقة بسيطة (ومقلقة ربما)، وهي أن معدلات النمو الاقتصادي والتضخم هي المعلومات الوحيدة، التي نحتاج إليها للتنبؤ بنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في آخر مئة عام بدقة كبيرة.
فلماذا لا تدفع الانتخابات السياسيين إذن إلى اختيار أفضل السياسات؟
من المبادئ الاقتصادية الأساسية أن أيّ سياسة تعود بالنفع على المجتمع ككل، يمكن تطويعها لتعود بالنفع على كل فرد من أفراد المجتمع، حتى ولو أدت إلى مكاسب للبعض وخسائر للبعض الآخر، ولا يتطلب ذلك سوى فرض قدر من الضرائب على الفائزين لتعويض الخاسرين، ليصبح الجميع أفضل حالاً في نهاية المطاف. ويستخدم الاقتصاديون أدوات فعالة، لاستكشاف السياسات الاقتصادية الأفضل لمصلحة المجتمع، ولكن من مبادئ الاقتصاد السياسي الأساسية أن الفائزين لا يرغبون في تحمل ضريبة لتعويض الخاسرين، ويحدد الفرد موقفه من المعركة ليس على أساس مصلحة المجتمع، ولكن على أساس المعسكر الفائز والمعسكر الخاسر، فمصلحة البلد قد لا تكون مصلحة الإقليم، أو المجموعة، أو القطاع، أو الطبقة، وبالتالي ستتم معارضتها. حتى في النظم الديمقراطية قد يرى الكثيرون أن السياسة تتبع قاعدة ذهبية، وهي أن من يملك الذهب هو من يضع القواعد.شبكة معقدة
يخوض الناخبون والمجموعات ذات المصلحة الخاصة على جانبي أي قضية معاركهم على الساحة السياسية، وتلعب آليات الاقتصاد السياسي دوراً في تحديد الفائز في معركة السياسات، وفي النظم الديمقراطية على الأقل، تمثل الانتخابات نقطة البدء المنطقية، وعندما لا يلبّي القائمون على الحكومة مطالب ناخبيهم، يحول ذلك دون استمرارهم في مناصبهم لفترة طويلة، لذلك قد نتوقع أن تختار النظم الديمقراطية السياسات، التي تعود بالنفع على الاقتصاد ككل، ولكن الاقتصاد ككل لا يدلي بصوته. ويحتاج السياسيون إلى أصوات المواطنين الذين يقررون نتائج الانتخابات، ويختلف الناخبون ذوو الأصوات الحاسمة أو المحورية باختلاف المؤسسات الانتخابية والمجموعات الاجتماعية في كل بلد.
الدواء سبب الداء!
ينشغل صناع السياسات أو المراقبون، أو حتى المواطنون العاديون المهتمون بالشأن الاقتصادي، لأنها قد تغير بدرجة كبيرة من طريقة النظر إلى السياسة والمشورة بشأن السياسات، ومن الممكن ألّا تكون السياسات، التي يشير التحليل الاقتصادي إلى أفضليتها لصالح الاقتصاد مجدية سياسياً. فمثلاً، في سياق الحديث عن التجارة الحرة، يوصي جميع الاقتصاديين تقريباً بأن إزالة جميع الحواجز التجارية من جانب واحد، هو الخيار الأفضل في البلدان الصغيرة، ولكن يكاد يكون من المؤكد أن أي حكومة تحاول فتح الباب أمام التجارة الحرة من جانب واحد، ستواجه معارضة شديدة من المجموعات ذات المصلحة الخاصة. وقد يؤدي ذلك إلى انهيار الحكومة وإحلال حكومة أخرى محلها، يمكن الاعتماد عليها في الحفاظ على الحواجز التجارية أو تشديدها. وفي هذه الحالة، قد يؤدي انتهاج أفضل سياسة ممكنة إلى نتيجة أسوأ كثيراً. لذلك ينصح السياسيون والمحللون والمراقبون والمواطنون العاديون المهتمون بالسياسة الاقتصادية بتقييم الانعكاسات الاقتصادية لمبادرات السياسات، دون إغفال جدواها السياسية.
وإذا تأكد أن أفضل سياسة ممكنة سيكون مصيرها الفشل، بل ربما تؤدي إلى ردود أفعال عنيفة، قد يكون العلاج أسوأ من المرض نفسه، ويبدو الأمر أكثر منطقية لو تم أخذ الواقع السياسي الذي تواجهه الحكومة في الاعتبار وصياغة السياسات، بما يتسق مع هذا الواقع. لذلك يعدّ ثاني أفضل خيار هو الخيار الأفضل، بدلاً من الإصرار على الخيار الأمثل الذي يؤدي إلى حال أسوأ في نهاية المطاف — أو كما جاء في الحكمة الشعبية أن المثالية عدو النجاح.
* أكاديمي مصري

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق