بين أزيز الصواريخ وهواجس الحسابات الإقليمية، تعود جبهة الجنوب السوري إلى الواجهة من جديد. في مشهد يعيد للأذهان تعقيدات ما قبل سقوط دمشق، شهدت المنطقة تصعيدا مفاجئا تمثّل بإطلاق صاروخين من داخل الأراضي السورية باتجاه الجولان المحتل، في أول حادث من نوعه منذ تسلّم الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع مقاليد الحكم.
التوقيت حساس، والفاعل مجهول، لكن الاتهامات تتطاير: إيران، فلول النظام، خلايا نائمة، وربما صفقات دولية تُطبخ في الظل. وبينما تتأرجح إسرائيل بين الردع والتصعيد، يبقى الجنوب السوري مرشحا لأن يكون ساحة اختبار جديدة لمعادلات الشرق الأوسط المتغيرة.
إسرائيل: صواريخ درعا رسالة من طهران.. والرد حتمي
يرى إيلي نيسان، الكاتب والباحث السياسي الإسرائيلي، خلال حديثه إلى غرفة الأخبار على سكاي نيوز عربية أن إيران تقف وراء التصعيد في الجنوب السوري، مؤكداً أن من أطلق الصواريخ باتجاه الجولان "إما فلول النظام السوري السابق أو فصائل موالية لطهران تحاول خلط الأوراق"، مضيفا: "إيران هي المستفيد الأول مما جرى، فهي تسعى لإعادة تأجيج الجبهة السورية الإسرائيلية، وربما لاستدراج رد فعل إسرائيلي يُربك الإدارة الجديدة في دمشق".
نيسان، الذي تحدث لـ "سكاي نيوز عربية"، أشار إلى أن إسرائيل "لا تسعى لتصعيد واسع، لكنها لن تتهاون مع تكرار الاستهداف"، مؤكداً أن: "الهدف هو منع تكرار سيناريو 7 أكتوبر، فاليوم هناك تحركات لإجهاض أي تهديد مشابه عبر الجنوب السوري".
كما حمل وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، مسؤولية الحادث للنظام السوري برئاسة أحمد الشرع، رغم إدراك تل أبيب أن "الشرع لا يسيطر بالكامل على الجنوب بعد". إلا أن نيسان يلمح إلى رسائل إيجابية بين الطرفين، مضيفاً: "حتى جدعون ساعر، الذي وصف سابقاً الرئيس السوري بـ'الإرهابي ببدلة'، غير موقفه خلال اللقاء الأخير مع وزير الخارجية الألباني، ما يشير إلى تغيرات محتملة في السياسة الإسرائيلية تجاه دمشق".
تل أبيب تريد الجنوب بلا سيادة
في المقابل، ينتقد الباحث السياسي السوري عمر كوش بشدة الموقف الإسرائيلي، معتبراً أن الاتهامات الموجهة للنظام السوري الجديد أو لإيران "ذرائع لتبرير الانتهاكات المتواصلة للسيادة السورية". ويؤكد أن: "إسرائيل تعي تماماً أن من أطلق الصواريخ ليس الجيش السوري الجديد، بل فلول غير منضبطة تتلقى دعما من طهران ومع ذلك، اختارت قصف مواقع سيادية بدل التعامل مع الفاعلين الحقيقيين".
ويصف كوش التصرفات الإسرائيلية بـ"العدوانية غير المسبوقة"، مشيراً إلى أن إسرائيل: "لا تريد أن ترى جيشاً سورياً قوياً في الجنوب، وتمنع انتشاره، ثم تحاسب الدولة السورية على أفعال لا تسيطر عليها. هذا تناقض يكشف زيف الادعاء الإسرائيلي ويؤكد أن هدف تل أبيب الحقيقي هو منع سوريا من التعافي".
ويضيف أن الضربات الإسرائيلية المتكررة تستهدف استنزاف الدولة السورية الوليدة، وتوجيه رسائل غير مباشرة للولايات المتحدة عبر خلط الأوراق الأمنية.
إيران تعبث جنوبا وتساوم نوويا
أما غبريال صوما، عضو الحزب الجمهوري والعضو السابق في الفريق الاستشاري للرئيس دونالد ترامب، فقد رأى في ما يحدث "فصلاً جديداً من اللعبة الإيرانية الكبرى"، مشدداً على أن طهران: "تستخدم الساحة السورية كورقة ضغط في مفاوضاتها النووية مع واشنطن، وهي تسعى لابتزاز الغرب عبر إشعال جبهات متعددة".
صوما أشار إلى أن الولايات المتحدة "تراقب الوضع عن كثب، لكن أولوياتها تظل مركزة على الاستقرار في سوريا وتثبيت السلطة الجديدة"، مضيفاً: "ترامب اعترف بالنظام الجديد وبدأ بخطوات رفع العقوبات، لكن أي انفجار جديد قد يعرقل هذا المسار.. على طهران أن تعي أن عهد الفوضى لم يعد مقبولا، وأن إسرائيل ليست وحدها من سيتصدى لها".
ويؤكد صوما أن "التحدي الأكبر أمام الرئيس الشرع اليوم هو تطهير المؤسسات الأمنية من الولاءات القديمة، وتفكيك شبكات النفوذ التي كانت تتغذى على العلاقة مع إيران"، ويختم بتحذير: "إذا لم تتحرك دمشق لتثبيت نفوذها على الأرض الجنوبية، فستُستدرج إلى مواجهة لا تريدها".
الجنوب السوري ساحة لتصفية الحسابات
يرى المحلل السياسي الإيراني محمد صالح صدقيان أن الجنوب السوري تحول إلى "أرض تصفية حسابات إقليمية بين إسرائيل وإيران"، مشيراً إلى أن "لا أحد يملك السيطرة الكاملة هناك، مما يفتح المجال أمام مجموعات خارجة عن السيطرة".
ويضيف صدقيان في حديثه لـ "سكاي نيوز عربية": "ما نشهده اليوم هو محاولات من بعض الجهات لإعادة تفعيل أوراق النفوذ الإيراني في مواجهة تمدد الإدارة الجديدة في دمشق، وربما لإرباك الانفتاح العربي والدولي على سوريا".
لكنه يوضح في الوقت ذاته أن طهران "ليست في وارد مواجهة عسكرية مع إسرائيل في المرحلة الحالية، بل تعمل على حفظ توازن الردع دون تجاوز الخطوط الحمراء"، مشيراً إلى أن: "الضربات الإسرائيلية تحمل رسالة مزدوجة: ردع إيران، وإضعاف النظام الجديد عبر إظهار عجزه عن السيطرة على أراضيه".
ويخلص صدقيان إلى أن "نجاح الإدارة الجديدة في دمشق يتوقف على قدرتها في احتواء هذه الفوضى، واستعادة السيادة على الجنوب"، محذراً من أن: "استمرار الضربات الإسرائيلية سيُبقي المنطقة رهينة الانفجارات المتقطعة، ما لم يُكبح التصعيد عبر تفاهمات دولية مباشرة".
الجنوب.. خط تماس دائم في معركة النفوذ
ما بين اتهامات متبادلة، وقذائف تتطاير على وقع زيارات دبلوماسية، تبقى جبهة الجنوب السوري عنواناً مستمراً لتوترات مرشحة للتفاقم. إيران قد لا تكون بعيدة عن تحريك الفصائل، لكن إسرائيل بدورها لا تسعى للتهدئة بقدر ما تمارس ضغطاً محسوباً ضد دمشق وطهران معاً. النظام السوري الجديد يواجه اختبار سيادة مبكّر، والغرب يراقب بقلق دون رغبة في التدخل المباشر.
اللافت في كل ما جرى هو تشابك الأجندات: فصائل "الضيف"، خلايا نائمة، نفوذ إيراني، رغبات إسرائيلية في تحجيم الجيش السوري الجديد، وقلق أميركي من عودة الفوضى. وبين كل هذه الخطوط، تلوح في الأفق معادلة واحدة: لا استقرار في الجنوب السوري دون تفاهمات إقليمية واضحة، وسوريا لن تُترك لتعيد بناء ذاتها دون ثمن.
0 تعليق