منذ عقود، شكلت العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل حجر الزاوية في سياسات الشرق الأوسط، وبالأخص في عهد رؤساء جمهوريين، عُرف عنهم الانحياز العلني لمصالح تل أبيب، إلا أن الديناميكية التي تُطبع بها العلاقة حالياً بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تكشف عن تباينات غير مألوفة.
فعلى الرغم من الخطاب المتماسك، والتأييد الأميركي العلني لإسرائيل في حربها ضد حماس، تقف تصريحات وتحركات إدارة ترامب الأخيرة شاهداً على انزياح تكتيكي في العلاقة، يؤشر إلى مسافة آخذة بالاتساع بين الحليفين.
تحولات واشنطن.. ما وراء إقالات البيت الأبيض
لم تمر الضربة التي تلقاها الطاقم الإسرائيلي في دوائر القرار الأميركي بصمت. إقالة 3 من المسؤولين المعروفين بولائهم لإسرائيل داخل إدارة ترامب، بينهم مسؤولون في مجلس الأمن القومي، مثّلت تطوراً لافتاً أثار مخاوف تل أبيب.
فسر مدير التحالف الأميركي الشرق أوسطي للديمقراطية توم حرب هذه التغييرات بأنها ليست عشوائية، بل جزء من تحول منهجي في هيكلة جهاز الأمن القومي، قائلاً: "بدأ الأمر بإقالة مايك والتز، تلاه تخفيف في الطواقم بنسبة تفوق 100 موظف. الهدف هو دمج الأمن القومي مع الخارجية لتفعيل خطة تنفيذية شاملة".
وبينما حاول تبرير هذه الخطوة باعتبارها إجراءً تنظيمياً، عاد ليشير بوضوح إلى وجود خلافات جوهرية مع نتنياهو، خصوصاً في موضوع "خطة الريفييرا" وهي المقترح الأميركي لإعادة توطين سكان غزة في مشاريع اقتصادية خارج القطاع. المغزى العميق هنا، ليس فقط في الإقالات، بل في أن إدارة ترامب بدأت بتجاوز نتنياهو في رسم مستقبل غزة، دون تنسيق مسبق. وهذا تحدٍ غير مسبوق في العلاقة بين الطرفين.
في المقابل، يُظهر رئيس مركز الصفدي للدبلوماسية الدولية والأبحاث وعضو مركزي في حزب الليكود، مندي صفدي خطاباً احتوائياً دفاعياً، قائلاً: "الإقالات لا تعني استهدافا لإسرائيل. ترامب يملك حرية القرار. العلاقة معنا استراتيجية وتتجاوز الأشخاص".
يحاول صفدي جاهداً تبديد المخاوف، إلا أن محاولاته لا تلغي حقيقة أن هناك شعوراً ضمنياً في إسرائيل بأن الإدارة الأميركية بدأت تفكر بشكل مختلف، خصوصاً في ظل صمتها المطبق تجاه مقترحات نتنياهو بشأن مستقبل غزة، وتباطؤها في دعم الخطط العسكرية ضد إيران.
يرى صفدي أن الحل لا يكون من خلال ترحيل الفلسطينيين، بل بتشكيل هيئة عربية لإدارة غزة بعد حماس، قائلاً: "التهجير سيجعل العالم يثور على إسرائيل. الحل يبدأ بتفكيك الفكر الإرهابي، لا بتغيير الجغرافيا".
الفرق في الطرح هنا جوهري: بينما تسعى واشنطن لإغلاق ملف غزة عبر حل جذري، يعتمد على ترحيل سكاني مدعوم باستثمارات اقتصادية، ترى تل أبيب أن الأمر يحتاج إلى مقاربة أمنية فكرية تدريجية، تحظى بشرعية إقليمية، لا تثير الرأي العام الدولي.
إيران.. توافق ظاهري وخلاف خفي
لطالما شكل الملف الإيراني نقطة التقاء استراتيجية بين واشنطن وتل أبيب، لكن ما يكمن في التفاصيل يعيد صياغة الموقف.
حذر توم حرب بوضوح من خطر المراوغة الإيرانية قائلا: "إسرائيل ترى أن الخطر الحقيقي هو في الحرس الثوري، لا فقط في الملف النووي. فحتى لو وقع اتفاق جديد، سيُعاد تخصيب اليورانيوم مستقبلاً بفضل الحرس". ويضيف: "نتنياهو يريد إنهاء وجود الحرس الثوري قبل أن تنتهي ولاية ترامب. بعد ذلك، لا ضمانات".
أما مندي صفدي، فاعتبر أن إسرائيل لا تملك رفاهية المواجهة المباشرة مع إيران أو الحوثيين، لكنها "تبني بنك أهداف استخباريا دقيقا، يستثمر عند الحاجة"، في إشارة إلى عمليات تصفية محتملة مستقبلاً. لكنه في الوقت نفسه انتقد تخاذل المجتمع الدولي قائلا: "الدول الغربية لا تزال مترددة أمام الخطر الحوثي، وتركز على حماس فقط. هذا خطأ استراتيجي". إذاً، هناك إجماع على خطورة إيران، لكن الخلاف في وسيلة الرد: إسرائيل تريد ضربات استباقية ضد البنية العسكرية، في حين تنشغل واشنطن – وفق حرب – بالرهانات السياسية مع طهران، في لحظة تتقاطع فيها المفاوضات مع تهديدات الميدان.
من غزة إلى سوريا.. ثمن الفراغ الأميركي
تحذير لافت أطلقه توم حرب حين قال: "واشنطن رفعت العقوبات عن أحمد الشرع في سوريا، وتسمح بانضمام المتشددين إلى جيش غير دستوري. هذا تطور خطير على أمن إسرائيل". ويتابع محذراً من سحب الغطاء العسكري عن العمليات ضد الحوثيين، معتبراً أن وقف الضربات الجوية الأميركية عليهم هو تنازل مجاني لإيران في اليمن.
وفي مقابل هذا التصعيد، يظهر مندي صفدي أكثر براغماتية، مكتفيا بالتأكيد على أن إسرائيل "تراقب كل شيء وتتحرك وفق مصالحها الأمنية، لا العناوين الإعلامية".
إلا أن هذه الردود لا تلغي الشعور العام في الأوساط الإسرائيلية بأن الولايات المتحدة بدأت تتراجع عن دورها التقليدي كحامية للأمن الإسرائيلي، في مقابل طموحات تفاوضية مع طهران ودمشق والحوثيين.
هل دخلت العلاقة الأميركية الإسرائيلية مرحلة "المكاشفة"؟
يبدو أن الخطاب الرسمي لا يعكس كل ما يجري في كواليس العلاقة بين واشنطن وتل أبيب. الإقالات، والملفات المتفجرة كغزة وإيران واليمن، تعكس تصدعات في الأولويات، إن لم تكن في المبادئ.
تصريحات توم حرب تكشف عن قلق داخلي أميركي من تصلب نتنياهو، بل وتُلمح إلى رغبة ترامب في فرض حلول خارج الأطر الإسرائيلية. في المقابل، يحاول مندي صفدي تطمين تأكيد الشراكة الثابتة، رغم ما يكشفه الواقع من افتراق في الرؤية.
التحالف لم ينكسر بعد، لكنه بالتأكيد لم يعد كما كان. فهل يتجه ترامب لفرض حلول استراتيجية حتى على حساب نتنياهو؟ أم أن نتنياهو، بخبرته ومكره السياسي، سينجح في إعادة واشنطن إلى موقع "الداعم غير المشروط"؟
الأسابيع المقبلة ستحدد، ليس فقط مستقبل غزة أو الملف الإيراني، بل طبيعة العلاقة بين أقوى حليفين في المنطقة.
0 تعليق