تبدو فرنسا في صيف 2025 كأنها تقف على حافة هاوية اقتصادية وسياسية في آن واحد. فالأرقام التي تخرج من وزارة المالية والبنك المركزي لم تعد مجرد بيانات إحصائية عابرة، بل تحولت إلى كوابيس يومية تطارد الحكومة والرئاسة.
أرقام مفزعة تضع باريس أمام مأزق سياسي–اقتصادي
الدين الإجمالي الفرنسي تجاوز 8.6 تريليون دولار، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد الوطني، فيما وصلت الديون الحكومية المباشرة إلى 3.6 تريليون دولار حتى يونيو 2025. الأسوأ أن الدين العام والخاص معاً يرتفع بمعدل 450 ألف دولار كل دقيقة، ما يعكس نزيفاً متواصلاً يصعب إيقافه.
وفي المقابل، يسجل الاقتصاد تباطؤاً حاداً مع نمو متوقع لا يتجاوز 0.6بالمئة ، وهو الأضعف منذ عشر سنوات. أما البنية الديمغرافية، فتنذر بتفاقم الضغوط على المالية العامة، إذ يضم المجتمع الفرنسي أكثر من 14 مليون مواطن فوق سن 65 عاماً، أي ما يعادل خمس السكان. ومع استمرار الركود في القطاع الخاص للشهر الحادي عشر على التوالي، وارتفاع الضرائب إلى مستويات غير مسبوقة، يتشكل مشهد قاتم يضع الحكومة أمام أزمة ثقة داخل البرلمان وأزمة مصداقية في الشارع.
جبل الديون وتحديات النمو
منذ عقود، اعتادت الحكومات الفرنسية على إدارة مستويات مرتفعة من الديون العامة، لكن الوضع الحالي يمثل مرحلة غير مسبوقة من التضخم المالي. فقد بلغت خدمة الدين مستويات تضغط بشدة على الموازنة العامة، ما يترك هامشاً ضئيلاً للإنفاق الاجتماعي أو الاستثماري.
تخطط الحكومة لتوفير 48 مليار دولار ضمن ميزانية 2026، وخفض العجز إلى 4.6 بالمئة من الناتج المحلي. غير أن هذه الخطط تصطدم بواقع اقتصادي هش، حيث يتراجع الإنتاج الصناعي ويواصل القطاع الخاص انكماشه، فيما تتضاءل قدرة الحكومة على رفع الإيرادات الضريبية دون إشعال اضطرابات اجتماعية.
في هذا السياق، يرى محللون أن الأهداف المعلنة ليست سوى محاولة سياسية لطمأنة الأسواق والاتحاد الأوروبي، لكنها تبقى بعيدة عن المعالجة الجذرية لجبل الديون المتراكم.
الشيخوخة السكانية: عبء ثقيل على المالية العامة
تشكل التركيبة السكانية تحدياً هيكلياً لا يقل خطورة عن الدين العام. فمع ارتفاع عدد المتقاعدين وكلفة الرعاية الصحية، تتزايد الضغوط على الموازنة، فيما تتقلص قاعدة القوى العاملة التي تمثل المحرك الأساسي للنمو والإنتاجية.
وتشير التقديرات إلى أن نسبة الإعالة سترتفع بشكل ملحوظ خلال العقد المقبل، ما يعني زيادة الأعباء على الحكومة وتقليص قدرة الاقتصاد على استيعاب أي صدمات إضافية. وفي ظل الضرائب المرتفعة أصلاً، يصبح من الصعب على الحكومة إيجاد مصادر جديدة لتمويل هذه الالتزامات دون إثارة موجات غضب اجتماعي.
الأزمة سياسية قبل أن تكون اقتصادية
في حديثه لبرنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية، قدّم المتحدث الرسمي باسم حزب الاستعادة الفرنسي د. جان مسيحة رؤية مغايرة، مؤكداً أن المشكلة الحقيقية ليست في الأرقام الاقتصادية وحدها، بل في المشهد السياسي المتصدع.
"الديون العامة التي تم ذكرها مضبوطة ومعروفة منذ سنوات، والمشكلة ليست جديدة. لكن الكارثة أن رئيس الجمهورية لا يملك أغلبية برلمانية، وبالتالي لا يملك رئيس الوزراء أيضاً هذه الأغلبية. نحن أمام تفكك برلماني تاريخي"، يقول مسيحة.
ويعتبر مسيحة أن قرار رئيس الوزراء فرانسوا بايرو بطلب التصويت على الثقة لم يكن سوى محاولة استباقية لتجنب السقوط عبر رفض الميزانية في الخريف المقبل. فحتى لو استمرت الحكومة لشهرين إضافيين، فإن سقوطها كان حتمياً مع أول اختبار برلماني جدي.
بين باريس وبروكسل: تداعيات أوروبية خطيرة
الأزمة الفرنسية ليست شأناً داخلياً فحسب، بل تهدد بانعكاسات مباشرة على الاتحاد الأوروبي. ففرنسا تمثل ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، وأي اهتزاز سياسي أو اقتصادي فيها يترك أثره على استقرار العملة الأوروبية وثقة المستثمرين الدوليين.
"عندما تهتز فرنسا سياسياً واقتصادياً، فإن وحدة أوروبا كلها تكون في خطر"، يوضح مسيحة، مشيراً إلى أن خطة بايرو لتقليص العجز "لا تمثل سوى نقطة في بحر"، في حين تحتاج البلاد إلى إجراءات أكثر جرأة بعشرات المليارات من اليورو.
ومع معاناة الاقتصاد الألماني من الركود، والأوضاع السياسية غير المستقرة في إيطاليا، فإن اهتزاز فرنسا قد يخلق حلقة ضعف ثلاثية تهدد مجمل البناء الأوروبي.
خطة المعارضة: بدائل حزب الاستعادة
في مواجهة خطة الحكومة المحدودة، يقترح حزب الاستعادة الذي ينتمي إليه مسيحة خطة لتوفير 63 مليار يورو دون تحميل المواطنين أي أعباء إضافية. وترتكز الخطة على:
إلغاء استقبال المهاجرين الذي يكلف بين 40 و80 مليار يورو سنوياً، معتبراً أن بلداً مديوناً بأكثر من 3 آلاف مليار يورو لا يمكنه تحمل هذا العبء. إلغاء الهيئة الوطنية للإذاعة والتلفزيون العام التي تستهلك 4 إلى 5 مليارات يورو سنوياً، بدعوى أن القطاع الخاص قادر على القيام بالمهمة في عصر الإعلام الرقمي. حل بعض الوكالات الإدارية مثل Arcom، المكلفة بمراقبة التوازن السياسي في الإعلام، والتي يعتبرها الحزب غير ضرورية ولا مثيل لها في الديمقراطيات الحديثة.لكن هذه المقترحات تصطدم بأيديولوجية الحكومة، وفق مسيحة، التي ترفض النظر في مثل هذه الإجراءات الراديكالية، ما يزيد من تعقيد الأزمة.
ثقة المستثمرين على المحك
رغم أن المستثمرين الدوليين اعتادوا على الثقافة السياسية الفرنسية المليئة بالإضرابات والاحتجاجات، إلا أن الأزمة الحالية تحمل بعداً جديداً يتمثل في انسداد الأفق السياسي.
"المستثمرون يريدون رؤية وخطة واضحة. لكن الباب السياسي مغلق والرؤية غائبة، ما يشكل خطراً على الاستثمارات والنمو"، يحذر مسيحة.
هذا الغموض يعزز المخاوف من هروب رؤوس الأموال أو على الأقل تراجع وتيرة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ما يضعف قدرة الاقتصاد الفرنسي على التعافي السريع.
مأزق ماكرون: بين الاستقالة وحل البرلمان
تفتح الأزمة الباب أمام ثلاثة سيناريوهات دستورية رئيسية:
استقالة رئيس الوزراء وتعيين بديل قادر على حشد أغلبية برلمانية، وهو احتمال ضعيف في ظل الانقسامات العميقة داخل البرلمان. حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة، وهو خيار محفوف بالمخاطر قد يفتح الباب أمام صعود قوي لليمين المتطرف. استقالة الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه، وهو احتمال لا يبدو مطروحاً حالياً لكنه يظل خياراً دستورياً قائماً.ويشير مسيحة إلى أن جميع هذه الخيارات صعبة التنفيذ في الوقت الحالي، ما يجعل فرنسا عالقة في أزمة سياسية مغلقة تزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي وتفقد المستثمرين الثقة.
اختبار تاريخي لفرنسا وأوروبا
ما يجري في فرنسا اليوم يتجاوز حدود أزمة مالية أو ركود اقتصادي دوري، ليصبح اختباراً تاريخياً للنظام السياسي والاقتصادي الفرنسي بأسره. فالدين العام المتصاعد، والشيخوخة السكانية، والركود الممتد، كلها تحديات ضخمة بحد ذاتها. لكن عندما تتقاطع مع تفكك برلماني وغياب الثقة بين الحكومة والشعب، تتحول الأزمة إلى تهديد وجودي للحكومة وربما للرئاسة.
0 تعليق