أنقرة- في ضربة أمنية وصفت بأنها الأخطر منذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، أعلنت السلطات التركية الأسبوع الماضي إحباط شبكة تجسس وتخريب مرتبطة بتنظيم فتح الله غولن داخل واحدة من أبرز شركات الصناعات الدفاعية في البلاد.
الشبكة، التي شملت الاعتقالات في صفوفها شخصيات بارزة من القطاعين العام والخاص، لم تقتصر أنشطتها على جمع المعلومات، بل استهدفت مشاريع إستراتيجية حساسة مثل "الهلال النجمي" وجهود إنتاج المتفجرات محليا. ووصفت أنقرة القضية بأنها أخطر محاولة تسلل إلى صناعة الدفاع التركية في تاريخها.
وأعلن مكتب المدعي العام في إسطنبول تفكيك الشبكة بعد توقيف أمين أونير مالك مجموعة "أسان" للصناعات الدفاعية، والمدير العام للمجموعة غوركان أوقوموش، على ذمة التحقيق. ووجهت للموقوفين اتهامات تتعلق بـ"الانتماء إلى منظمة إرهابية مسلحة" و"الإتلاف وسوء الاستخدام والاحتيال للحصول على وثائق تخص أمن الدولة".

تفاصيل التحقيقات
ويعد أوقوموش شخصية بارزة في المجال البحثي، إذ شغل سابقا منصب رئيس معهد الأبحاث الدفاعية التابع لمجلس العلوم والتكنولوجيا التركي "توبيتاك" المسؤول عن تطوير الذخائر والصواريخ، مما أتاح له الاطلاع على مشاريع بالغة الحساسية قبل انتقاله إلى القطاع الخاص.
ووفق التحقيقات، لم تكن مجموعة "أسان" مجرد شركة تجارية، بل واجهة استغلتها عناصر مرتبطة بتنظيم غولن للتغلغل داخل قطاع الدفاع، وجمع معلومات سرية وتمويل أنشطة تخريبية.
وأظهرت الأدلة الرقمية أن أونير كان على تواصل عبر تطبيق "باي لوك" المشفر مع أكثر من 100 جهة تابعة للتنظيم، بينهم قيادات بارزة مثل جميل كوجا وحسين ساروهان. كما خلصت تقارير وحدة الجرائم المالية إلى أنه أشرف على تحويل ملايين الليرات إلى الخارج بطرق سرية لتغذية شبكات التنظيم، وهو ما اعتبرته السلطات "شريانا ماليا خفيا" أُنشئ لدعم المجموعة بعد فشل انقلاب 2016.

في المقابل، سارعت مجموعة "أسان" إلى نفي هذه الاتهامات، مؤكدة -في بيان رسمي- أنها لم تتلقَ أو تتداول أي معلومات تتعلق بطلبيات الجيش أو وزارة الدفاع، واعتبرت القضية "حملة لتشويه السمعة".
إعلان
لكن النيابة العامة شددت على أن التحقيقات لا تزال مستمرة، وأن ما تم الكشف عنه حتى الآن مجرد جزء من شبكة أوسع يجري تعقب خيوطها لكشف جميع أبعادها.
وكشفت التحقيقات عن أن الشبكة سعت إلى عرقلة إنتاج الأسلحة والذخائر الإستراتيجية داخل تركيا، إذ تبين أن أفرادها تعمدوا تعطيل تصنيع قذائف المدفعية عيار 155 مليمترا، وهي من الذخائر الأساسية في ترسانة الجيش التركي، بهدف التأثير على سير العمليات العسكرية ضد "التنظيمات الإرهابية".
وخلال مداهمات نفذتها قوات الأمن في منازل ومكاتب المشتبه بهم، عُثر-حسب التصريحات الرسمية- على كمية كبيرة من الوثائق الدفاعية السرية، شملت خطط شراء ذخائر لمؤسسة الصناعات الميكانيكية والكيميائية، وتصاميم تقنية لإنتاج متفجرات "سي 4″ محليا، وجداول أسعار خاصة بعقود حساسة، وتقارير بحثية سرية أعدها معهد الأبحاث الدفاعية التابع لـ"توبيتاك" حول تطوير أنظمة الذخائر والصواريخ.
اكتشافات خطيرة
لكن الأخطر، حسب التحقيقات، كان تعطيل إنتاج وتسليم نحو 700 طن من متفجرات "سي 4" المطورة ضمن مشروع إستراتيجي يعرف باسم "الهلال النجمي" المخصص لإنشاء منشأة قيادة موحدة لوزارة الدفاع ورئاسة الأركان. فإنتاج هذه المادة محليا كان يمثل نقلة نوعية نحو الاكتفاء الذاتي الدفاعي، بعدما كانت تستورد من الخارج. وشددت السلطات على أن هذه المحاولات تستهدف جوهر الأمن القومي التركي.
كما تبين أن إنتاج ذخائر المدفعية من عيار 155 مليمترا تعرّض بدوره لتأخيرات متعمدة، في خطوة اعتبرها المحققون محاولة لإضعاف قدرات الجيش ميدانيا. ويأتي ذلك في وقت تسعى فيه مجموعة "أسان" إلى توسيع إنتاج هذا النوع من الذخائر ضمن برامج توطين الصناعات الدفاعية، وهو ما جعل استهدافها ضربة "موجعة" لجهود أنقرة الرامية إلى تعزيز استقلاليتها العسكرية.
واتخذت أنشطة الشبكة طابعا أكثر خطورة تمثل في اختراق مؤسسات الدفاع من الداخل عبر أساليب ممنهجة.
وتشير التحقيقات إلى أن المدير العام للمجموعة، غوركان أوقوموش، استثمر خبرته ومناصبه السابقة في القطاع الحكومي للتغلغل في الكوادر الفنية.
فبعد مغادرته منصبه بمعهد الأبحاث الدفاعية عام 2024، أسس "شركات واجهة" بالتعاون مع "أسان"، واستقطب من خلالها 19 مهندسا بارزا من المعهد نفسه، مما سمح بإنشاء قناة ظل لتسريب بيانات حساسة تخص مشاريع إستراتيجية، من دون أن يثير ذلك أي شبهات.
كذلك كشفت التحقيقات عن محاولة تجنيد فاشلة، إذ حاول موظف في "أسان" يدعى مسعود آتش إقناع أحد العاملين في مصنع البارود التابع لشركة الصناعات الميكانيكية والكيميائية، المدعو نور سونغور، بتمرير صور ووثائق سرية عبر تطبيق واتساب.
بيد أن الموظف المستهدف رفض التعاون، وسارع إلى إبلاغ السلطات الأمنية وتوثيق تفاصيل العرض، مما أدى إلى إحباط المخطط في مهده. واعتبر المسؤولون هذا الموقف نموذجا على اليقظة المهنية، التي حالت دون تسرب أسرار عسكرية حساسة، وأفشلت واحدة من محاولات الاختراق التي كانت تهدد المنظومة الدفاعية من الداخل.

متهمون حكوميون
لم تقتصر التحقيقات على مسؤولي الشركات الخاصة، بل امتدت لتشمل شخصيات بارزة في قطاع الصناعات الدفاعية الحكومية. فقد برز اسم عصمت سايهان، الرئيس السابق لمؤسسة الصناعات الميكانيكية والكيميائية الحكومية، ضمن المشتبه بهم الرئيسيين.
إعلان
وتشير المعطيات إلى أنه استغل موقعه للحصول على وثائق حساسة تتعلق بمشتريات الذخيرة والأسلحة، قام بتمريرها سرا إلى أمين أونير وشركائه. وتصفه السلطات بأنه كان مثل "حلقة وصل داخلية حرجة" زرعت في قلب مؤسسات الدفاع، لتمكين تنظيم غولن من الاطلاع على أسرار عسكرية من الدرجة الأولى.
كما كشفت التحقيقات عن ضابط سابق في مشروعات القوات البرية، يدعى علي أفجي، انضم لاحقا للعمل مع مجموعة "أسان". ويتهم بأنه سلم للشبكة تفاصيل دقيقة حول قدرات مرافق التخزين والإنتاج التابعة لمؤسسة الصناعات الميكانيكية والكيميائية الحكومية، بما في ذلك بيانات المواد الخام والعمليات التصنيعية.
وحسب المحققين، فقد جرى تمرير هذه المعلومات الحساسة عبر أونير لتصل مباشرة إلى شبكة التجسس، في ما يشكل خرقا أمنيا خطيرا على مستوى سلاسل الإمداد والتصنيع العسكري.
من جهتها، ترى الباحثة في شؤون الأمن والدفاع مروة كاراكوتش أن خطورة الشبكة تكمن في طبيعة المشاريع التي استهدفتها، إذ تسللت مباشرة إلى برامج تمثل العمود الفقري للقدرات العسكرية التركية مثل "الهلال النجمي".
وأكدت -للجزيرة نت- أن أي تعطيل متعمد لهذه المشاريع كان من شأنه أن يقوّض مساعي أنقرة لتحقيق الاكتفاء الذاتي بمجال التسليح، ويزيد من اعتمادها على الخارج في مرحلة حساسة تتطلب تعزيز الاستقلال الدفاعي أكثر من أي وقت مضى.
وتضيف أن الاختراقات التي شهدتها تركيا عقب محاولة الانقلاب انحصرت في الغالب داخل مؤسسات الدولة والجيش. أما هذه القضية، فتختلف لأنها تستهدف البنية الصناعية والتكنولوجية للصناعات الدفاعية، وهو ما يجعلها أخطر من السابقة. فهي لا تمس الجانب الإداري أو القيادي فحسب، بل تضرب قدرة الدولة على إنتاج السلاح الذي يشكل ضمانة أمنها وسيادتها.
0 تعليق