Published On 4/9/20254/9/2025
|آخر تحديث: 20:00 (توقيت مكة)آخر تحديث: 20:00 (توقيت مكة)
وصفة للنجاح، طريقك لريادة الأعمال، نصائح للثراء السريع.. لو لم تصادف مثل هذا المحتوى الجذاب الذي يطارد الناس طوال الوقت في منصات التواصل الاجتماعي، فربما تكون من القلة سعيدة الحظ الذين لم يفتهم الكثير، بل وأفلتوا من ضغوط نفسية باتت تشكل أزمة جديدة تضاف لأزمات ما بات يُعرف بـ"إنسان السوشيال ميديا".
من أبرز خصائص هذا المحتوى -الذي يداعب عواطف البشر وأحلامهم- هو تقديم الإرهاق على أنه وسام شرف، والإنهاك على أنه دليل على الطموح، وأن النجاح يمر بالضرورة عبر بوابة غير إنسانية.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listلكن الحقائق والأرقام – بل والفطرة الإنسانية – تكشف أن هذه الخريطة لم تفسد فقط معاني نبيلة مثل الجد والمسؤولية والالتزام، بل إنها تقود في الغالب إلى الفشل والاحتراق، لا إلى الإنجاز وبلوغ المجد.
وحتى لا تختلط المعاني، نحتاج إلى إجابة للسؤال المهم: ما هو الخط الفاصل بين الاجتهاد سعيا نحو الطموح الضروري، وبين التدمير الذاتي اللاهث وراء سراب النجاح المتخيل؟
الانغماس في العمل يرتبط بمشاعر إيجابية وهو مؤشر على العافية، أما إدمان العمل فيرتبط بالقهر والشعور بالذنب، وهو مؤشر على سوء التكيف.
بواسطة سيسيلي شو أندرياسين، دكتورة في علم النفس وباحثة رائدة في إدمان العمل، جامعة بيرغن.
بين الهوس المفروض والطموح الصحي
قبل الغوص في قلب الأزمة، يجب فصل أربعة مفاهيم يتم الخلط بينها:
ثقافة الكدح (Hustle Culture): ظاهرة اجتماعية خارجية تمجِّد ساعات العمل الطويلة والإنتاجية التي لا هوادة فيها كشعار شرف والمسار الأساسي للنجاح، يتم تطبيعها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وروايات ريادة الأعمال. الهوس بالعمل (Workaholism): إدمان سلوكي قهري داخلي المنشأ، يُعرَّف أكاديميًا بأنه "دافع داخلي قهري لا يمكن مقاومته للعمل باستمرار، مصحوب بمشاعر سلبية مثل القلق والشعور بالذنب عند عدم العمل". الاحتراق الوظيفي (Burnout): النتيجة الحتمية لثقافة الكدح والهوس بالعمل، وهي متلازمة مهنية معترف بها من قبل منظمة الصحة العالمية، تتميز بالإنهاك الجسدي والنفسي، وزيادة المشاعر السلبية تجاه العمل، وتراجع الشعور بالإنجاز. الانغماس الوظيفي (Work Engagement): وهو ما نعتبره النظير الصحي للمفاهيم الثلاثة السابقة، وهو يتميز بالطاقة العالية والمشاركة الفاعلة والاستمتاع بالعمل، ويفتقر إلى الدافع القهري الذي يميز الهوس بالعمل.نحن نعيش في ظل وهم جماعي مفاده أن الاحتراق الوظيفي هو الثمن الذي لا بد منه للنجاح.
بواسطة أريانا هافينغتون، مؤسسة "Thrive Global" ومؤلفة كتاب "Thrive".
الفخ: تحول الاستثناء إلى ثقافة مدمرة
من غير الموضوعي إنكار أن العمل المكثف يلعب دورا حاسما في مراحل معينة، مثل المراحل التأسيسية للمشاريع الريادية، وقتها يكون العمل لساعات طويلة ضرورة استراتيجية للبناء وبناء الزخم الأولي لجذب الاستثمار والعملاء. هذه المرحلة مثل مسابقات المسافات القصيرة، حيث يكون بذل أقصى طاقة لفترة محدودة أمرا منطقيا لتحقيق الإقلاع.
إعلان
المشكلة لا تكمن في السباق الأولي، لكن الأزمة هي تحويل الاستثناء إلى قاعدة، والفشل في الانتقال إلى وتيرة صحية مستدامة، هنا تتحول "ثقافة الكدح" إلى فخ، حيث يصبح الجهد الظاهري بذاته غاية، بغض النظر عن النتائج أو الكفاءة.
مع الوقت تتجذر "ثقافة الكدح" كمنظومة اجتماعية خارجية تمجد الساعات الطويلة كمعيار للنجاح. وتتغذى هذه الثقافة على "إدمان العمل" والذي تعترف به دوائر علم النفس كإدمان سلوكي.
وللأسف فإن النتيجة الحتمية هي "الاحتراق الوظيفي"، وهي متلازمة مدرجة في التصنيف الدولي للأمراض (ICD-11) من قبل منظمة الصحة العالمية، وتُعرّفها بأنها "ظاهرة مهنية" ناتجة عن إجهاد مزمن في مكان العمل لم تتم إدارته بنجاح.
المرونة في العمل ليست مجرد ميزة للموظفين، بل هي ميزة استراتيجية حقيقية للشركات. إنها محرك رئيسي لجذب المواهب، والإنتاجية، ونمو الأعمال بشكل عام في اقتصاد اليوم.
بواسطة المصدر: المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum).
إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى
الفكرة الجوهرية هي أن "ثقافة الكدح" تتجاهل قانونا أساسيا في الطبيعة والإنتاج، وهو قانون "العائد المتناقص". الأمر يشبه الأرض الزراعية: إذا زُرعت بلا توقف، فإنها تُستنزَف وتفقد خصوبتها ليكون حصادها هزيلا. كذلك الإنسان، يحتاج إلى فترات راحة لا يمكن اعتبارها ترفا، بل هي في حقيقة الأمر شرط لتجديد الطاقة والإبداع والإنتاجية.
وهذا المبدأ ينطبق حتى على الأشخاص الأكثر شغفا بعملهم. فقد يعتقد البعض أن الشغف وقود لا ينضب، لكنه أشبه بمحرك سيارة سباق فائق القوة، حيث يمكن لهذا المحرك أن يحقق أداء هائلا، ولكنه يولد حرارة شديدة. إذا لم يحصل على فترات تبريد وصيانة، فإنه سيتعرض للعطب والانهيار.
نعم قد يمنحك الشغف قوة الانطلاق، لكن الراحة هي ما تضمن القدرة على إكمال السباق. الهدف ليس إطفاء المحرك، بل الحفاظ عليه ليعمل بأقصى كفاءة على المدى الطويل.
وربما يمكننا أن نجد تلخيصا لهذا المعنى في الحديث النبوي الشريف الذي يقول "إِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى"؛ فمن يركض بلا توقّف يخسر الوسيلة والغاية معا.
هناك أزمة صامتة من المعاناة تؤثر على العمل في كل مكان، وإذا لم يتم التعامل معها، فستكون لها عواقب وخيمة على الاقتصادات والمجتمعات.
بواسطة بريان داو الرئيس التنفيذي لـ Mental Health UK
الفاتورة المُحققة: التكلفة البشرية والاقتصادية بالأرقام
بعيدا عن الجوانب الإنسانية -والتي لا يمكن تجاهلها- فإن التحليل الاقتصادي يكشف أن هذه الثقافة هي المحرك الأساسي لانهيار الإنتاجية ما يكلف العالم خسائر فادحة.
فالنزيف الحقيقي للخسائر يتسرب من مكاتب الموظفين "المحترقين" أو على الأقل "غير المندمجين". والأدلة على التكلفة السلبية لهذه الثقافة ليست مجرد افتراضات.
على الصعيد البشري:
وفقا لتقرير عن الاحتراق الوظيفي الصادر عن مؤسسة "Mental Health UK"، عانى 91% من البالغين في المملكة المتحدة من ضغط مرتفع أو شديد في العام الماضي. تشير بيانات منصة "Spill" -المتخصصة في تقديم دعم الصحة النفسية للموظفين في الشركات- لعام 2025 إلى أن 81% من موظفي الجيل Z تركوا وظائفهم لأسباب تتعلق بصحتهم العقلية. جون كليفتون، الرئيس التنفيذي لمؤسسة غالوب (Gallup)، علق على تقرير لمؤسسته بالقول: "إن ضعف الانغماس الوظيفي ليس مجرد قضية تتعلق بسعادة الموظفين، بل هو قضية تؤثر على النمو الاقتصادي العالمي".إعلان
على الصعيد الاقتصادي:
يقدر تقرير عن أوضاع أماكن العمل عالميا "State of the Global Workplace" الصادر عن غالوب (Gallup)، أن ضعف ارتباط الموظفين بالعمل يكلف الاقتصاد العالمي 8.9 تريليون دولار سنويا. في تحليل مشترك بين منصة تقدير الموظفين Workhuman وغالوب Gallup، قُدرت تكلفة الإنتاجية المفقودة بسبب الاحتراق الوظيفي وحده بحوالي 322 مليار دولار سنويا على مستوى العالم. وفقًا لدراسة مشتركة بين كلية هارفارد للأعمال (Harvard Business School) وجامعة ستانفورد (Stanford University)، تتكبد الشركات ما بين 125 إلى 190 مليار دولار إضافية سنويًا في الولايات المتحدة وحدها كتكاليف رعاية صحية مرتبطة بالإجهاد في مكان العمل.رد الفعل: إعادة تعريف النجاح
ويبدو أن هذا ما أنتج تحولات في أولويات القوى العاملة، فوفقا لاستطلاع رأي أجرته شركة "راندستاد" (Randstad) لاختيار عددا من الأولويات، وضع 83% من العمال "التوازن بين العمل والحياة" كأولوية قصوى، بينما جاء "الراتب" في المرتبة الثانية بنسبة 82%.
هذا التحول تقوده الأجيال الشابة التي ترفض مقايضة صحتها بالنجاح المهني التقليدي، وهو ما وصفه محللون بأنه "ليس ضعفا، بل استجابة منطقية لتوقعات غير منطقية في بيئة عمل متصلة دائمًا".
في هذا السياق، يشير خبراء في بيئة العمل -استنادًا إلى أبحاث مؤسسة غالوب- إلى أن الهدف ليس رفض العمل الجاد، بل التحول إلى مفهوم "الاندماج الإيجابي"، حيث يعمل الموظف بطاقة وحماس دون أن يستنزف نفسه حتى الاحتراق.
الشركات تتطور باستمرار، وهي بحاجة إلى أفكار جديدة طوال الوقت. الموظفون المندمجون هم الأقرب كثيرًا إلى أفضل الأفكار. إنهم يفكرون في الشركة ككل وكيف يتناسبون معها، وأفكارهم تؤدي إلى قرارات أفضل.
بواسطة جيم هارتر، كبير خبراء الاندماج الوظيفي والرفاهية في غالوب.
الخريطة الجديدة: نماذج عمل مستدامة ومُثبتة بالأرقام
الخروج من هذه الأزمة لا يتطلب التخلي عن الطموح، بل تبني نماذج عمل أكثر ذكاء، مثل:
الكسل الذكي: هنا يظهر المفهوم الذي يبدو متناقضًا، حتى كتب بعضهم مقالا بعنوان "انسوا ثقافة الكدح، الكسالى هم من يفوزون في 2025". بالطبع فإن "الكسل" في هذا السياق ليس خمولا، بل هو كراهية فطرية للجهد الضائع. "العامل الكسول الذكي" ينجح لأنه يتبع مبادئ فطرية للإنتاجية: يبحث عن أقصر الطرق، يرفض القيام بمهام متكررة ويفضل بناء نظام لأتمتتها، يركز على الأهم، يقدّر الراحة كأداة للتركيز والإبداع في ساعات العمل الفعلية، يطبق بشكل طبيعي مبدأ باريتو (80/20)، مركزا طاقته على الـ 20% من المهام التي تحقق 80% من النتائج. أسبوع العمل القصير: في أكبر تجربة عالمية للعمل أربعة أيام في الأسبوع – نسقتها "4 Day Week Global"– سجلت الشركات المشاركة انخفاضا في معدلات الاحتراق الوظيفي بنسبة 71%، وتراجعًا في مستويات الإجهاد بنسبة 39%، وفي المقابل، حققت نموا في الإيرادات بنسبة 1.4%. الاستثمار في العافية: يؤكد تقرير لمعهد ماكنزي الصحي (McKinsey Health Institute) أن كل دولار يتم استثماره في برامج تحسين صحة الموظفين يمكن أن يحقق عائدًا اقتصاديًا يتراوح بين دولارين وأربعة دولارات.درج الإنهاك أم مصعد الإنجاز؟
النجاح الحقيقي، كما تثبته الأرقام والتجارب، لا يكمن في مدى قدرتنا على التحمل، بل في مدى قدرتنا على الاستدامة. إنه الانتقال ثقافة تقدر جودة النتائج، وصحة الإنسان الذي يحققها.
وفي ظننا أن التحدي اليوم ليس في دفع الناس للعمل لوقت أطول، بل في خلق بيئة عمل إنسانية تساعد على العمل بذكاء أكثر، وللمفارقة ستكون الإنتاجية أكبر.
الخلاصة ببساطة ربما تكون في الإجابة على هذا السؤال: هل تفضل الصعود بالدرج أم بالمصعد؟
المصدر: الجزيرة + وكالات + مواقع إلكترونية + مواقع التواصل الاجتماعي
0 تعليق