شهد عام 2025 حالة فريدة في تاريخ الأسواق المالية العالمية، إذ اجتمعت الأصول عالية المخاطر والملاذات الآمنة على خط صعود واحد، في مشهد لم تألفه الدورات الاقتصادية السابقة. فالأسواق عادة ما تتحرك على إيقاع التوازن بين الأصول: فإذا ارتفعت الأسهم تراجعت المعادن النفيسة، وإذا ازدهرت السندات خفتت العملات المشفرة، لكن ما حدث هذا العام يكاد يشبه "حفلة استثمارية" حضرها الجميع وخرجوا منها رابحين.
فالقيمة السوقية لأسواق الأسهم العالمية قفزت إلى 133 تريليون دولار، مع مكاسب تجاوزت 7 تريليونات دولار منذ بداية العام. العملات المشفرة سجلت بدورها أرباحاً تفوق نصف تريليون دولار، وأسهمت في صناعة أكثر من 16,000 مليونير في سبعة أشهر فقط. الذهب والفضة لم يتخلفا عن الركب، حيث صعد المعدن الأصفر بنسبة 34 بالمئة ليسجل مستوى قياسياً تاريخياً، فيما ارتفعت الفضة بنحو 40 بالمئة متجاوزة حاجز 40 دولاراً للأونصة لأول مرة منذ 14 عاماً.
وحتى أدوات الادخار التقليدية التي طالما وُصفت بـ"الوديعة الميتة"، عادت لتمنح المستثمرين متوسط عائد سنوي يبلغ 4 بالمئة ، بينما تراوحت عوائد سندات الخزينة الأميركية بين 4–5 بالمئة.
ما يعيشه المستثمرون اليوم في قراءة وائل مكارم، كبير استراتيجي الأسواق في Exness خلال حديثه الى برنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية، يعد وضعا "خارج المألوف"، حيث الكل يربح في وقت واحد، مدفوعاً بموجة سيولة عالمية وبنقطة ضعف أساسية: السندات.
أسواق الأسهم.. قاطرة المكاسب العالمية
منذ بداية العام، بدت أسواق الأسهم هي المستفيد الأكبر من حركة الأموال العالمية. المؤشرات الأميركية تحديداً لعبت دور "قاطرة" السوق العالمي، مدعومة بعمليات إعادة شراء الأسهم (share buybacks) التي نفذتها الشركات الكبرى. هذه العمليات لم ترفع الطلب على الأسهم فحسب، بل صنعت "أرضية سعرية" حالت دون الانزلاق العميق في لحظات التصحيح.
وائل مكارم أشار إلى أن بعض صناديق الاستثمار المتداولة (ETFs) حققت ارتفاعات تراوحت بين 40 و50 بالمئة منذ بداية العام، وهو أمر استثنائي حتى بمعايير وول ستريت.
وأوضح أن الشركات الأميركية، بفضل فوائضها النقدية، ضخت مئات المليارات في إعادة شراء أسهمها، ما عزز الطلب وأوجد نوعاً من "التأمين الذاتي" ضد التراجعات.
أما الشركات الصغيرة والمتوسطة، فقد بدأت تلتقط أنفاسها بفضل التوقعات بتخفيضات للفائدة الفيدرالية هذا العام وربما أكثر خلال 2026، وهو ما يخفف من كلفة التمويل ويتيح لها إعادة الدخول في دورة النمو.
أوروبا والصين.. عودة المتأخرين إلى السباق
بينما كانت الأسواق الأميركية تستحوذ على الأضواء في السنوات الماضية، بدت 2025 فرصة للأسواق الأوروبية والآسيوية لتعويض ما فاتها. في أوروبا، جاء الزخم من عودة الإنفاق على البنية التحتية وتدفق الاستثمارات الباحثة عن فرص جديدة بعد سنوات من الأداء الضعيف. أسواق مثل ألمانيا حققت انطلاقة قوية مع بداية العام، فيما عادت بعض الاقتصادات الصغيرة في شرق أوروبا لتجذب رؤوس الأموال.
أما الصين، فقد شهدت رالي استثنائي في أسواق الأسهم، مرتبطاً بتدفق استثمارات داخلية وخارجية نحو قطاعات العقار والصناعة والتكنولوجيا. المستثمرون الذين ترددوا طويلاً في دخول هذه القطاعات عادوا بقوة، مدفوعين بتطمينات حكومية وبرامج دعم مالي تستهدف استعادة الثقة في الاقتصاد.
الذهب والفضة.. الملاذات الآمنة في سباق الصعود
على غير المعتاد، لم يتأثر الذهب بانتعاش الأسهم أو العملات الرقمية، بل واصل ارتفاعه ليكسب 34 بالمئة هذا العام ويحقق مستوى قياسياً تاريخياً. الفضة لحقت بالركب بنسبة صعود بلغت 40 بالمئة ، متجاوزة حاجز 40 دولاراً للأونصة لأول مرة منذ 2011.
اللافت أن الارتفاع جاء في وقت كانت فيه شهية المخاطرة مرتفعة، وهو ما يعكس حجم السيولة الهائل في الأسواق. أوضح مكارم خلال حديثه أن المستثمرين لم يجدوا سبباً للتخلي عن الملاذات الآمنة، رغم اندفاعهم نحو الأسهم والكريبتو، والسبب ببساطة أن عوائد السندات فقدت جاذبيتها مقارنة بما يمكن تحقيقه في أصول أخرى.
العملات المشفرة.. نصف تريليون جديد وطفرة إيثيريوم
العملات المشفرة، التي لطالما ارتبطت بالجدل والتقلبات، حققت بدورها مكاسب تفوق 500 مليار دولار في الأشهر الأولى من 2025. عدد المليونيرات الجدد الذين صنعتهم هذه السوق تجاوز 16 ألف شخص خلال سبعة أشهر فقط.
إيثيريوم كانت العنوان الأبرز، إذ حققت قفزة استثنائية منذ أبريل تفوقت على مكاسبها السابقة، بدعم من التشريعات الأميركية الجديدة التي وفرت إطاراً قانونياً أكثر وضوحاً. البيتكوين من جهته تعرض لتراجعات مرتبطة بخروج بعض المستثمرين من مراكزهم، لكن السوق أظهر مرونة أكبر مع دخول نماذج استثمارية جديدة خففت من حدة التذبذب.
الدولار تحت الضغط.. وسياسة الفيدرالي في الواجهة
تراجع الدولار الأميركي كان أحد العناوين الكبرى في 2025. توقعات خفض معدلات الفائدة مرتين قبل نهاية العام وضعت العملة تحت ضغط متزايد. بيانات الوظائف الأميركية الضعيفة خلال الأشهر الأخيرة زادت من احتمالية هذا السيناريو، في وقت يتعرض فيه الاحتياطي الفيدرالي لضغط سياسي مباشر من الرئيس دونالد ترامب لتسريع وتيرة التخفيض.
مكارم يوضح أن المستثمرين يترقبون بدقة بيانات مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي (PCE)، الذي أصبح المقياس الأهم في قرارات الفيدرالي. وفي حال أظهرت البيانات تباطؤاً في التضخم، فقد يتجه المركزي الأميركي نحو تخفيضات قوية في الفائدة، ما سيضعف الدولار أكثر.
في المقابل، اليورو وجد دعماً من احتمال تأخر البنك المركزي الأوروبي في تخفيض معدلات الفائدة، فيما تحرك الدولار الكندي بسرعة بعد قرارات متتالية لخفض الفائدة. أما الين الياباني، فقد يكون المستفيد الأكبر إذا استقر الاقتصاد المحلي وتحسنت السياسات المالية.
نهاية معادلة
الخاصية الأبرز لأسواق 2025 هي كسر القاعدة التقليدية التي طالما حكمت حركة الأصول: لم يعد هناك تبادل أدوار بين "الأسهم" و"الملاذات الآمنة". الكل ارتفع في وقت واحد، بدفع من موجة سيولة عالمية، وبرغبة جماعية لدى المستثمرين في تحقيق عوائد أعلى أينما وُجدت.
هذه الظاهرة، كما يفسرها مكارم، مرتبطة بتخارج الأموال من السندات، وضعف البدائل الآمنة طويلة الأجل. أمام مستثمر يرى السندات الأميركية تمنحه 4–5 بالمئة فقط، في حين تقدم الأسهم أو الكريبتو أو حتى المعادن عوائد أعلى بأضعاف، يصبح خيار "التخارج" طبيعياً، وهو ما غذّى هذا الارتفاع المتزامن في كل مكان.
0 تعليق