ملخص بالذكاء الاصطناعي
تشهد أسواق السندات الأوروبية والعالمية حالة غير مسبوقة من الاضطراب، حيث تتقاطع الضغوط على عوائد السندات الحكومية...
تشهد أسواق السندات الأوروبية والعالمية حالة غير مسبوقة من الاضطراب، حيث تتقاطع الضغوط على عوائد السندات الحكومية طويلة الأجل مع موجة قوية من الإصدارات الجديدة من قبل الحكومات والشركات.
هذا التناقض بين ارتفاع تكاليف الاقتراض السيادي من جهة، وزخم الإقبال على السندات الجديدة من جهة أخرى، يعكس طبيعة المرحلة الدقيقة التي تمر بها الأسواق المالية في ظل تحديات التضخم، وضبابية السياسات النقدية والمالية.
أوروبا في قلب العاصفة
كانت السندات الأوروبية في صدارة المشهد خلال الأيام الأخيرة، حيث ارتفعت العوائد بشكل لافت إلى مستويات تاريخية.
ففي بريطانيا، صعد العائد على السندات الحكومية لأجل 30 عاماً إلى أعلى مستوى منذ عام 1998، وذلك قبيل إعلان الميزانية المرتقبة، والتي يتوقع أن تتضمن إجراءات مالية مشددة. ويُنظر إلى هذا التطور بوصفه إنذاراً مبكراً بشأن التكاليف المتزايدة للاقتراض الحكومي في بيئة تتسم بارتفاع أسعار الفائدة.
وفي فرنسا، ارتفع العائد على السندات طويلة الأجل إلى مستوى لم تشهده منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، وسط مخاوف متزايدة من اهتزاز الاستقرار السياسي بعد تعثر الحكومة في تمرير خططها لخفض العجز. هذا الوضع أثار قلق المستثمرين بشأن التزام باريس بمسار ضبط أوضاع المالية العامة.
أما ألمانيا، التي تُعد تقليدياً ملاذاً آمناً للمستثمرين في أوقات الاضطراب، فقد شهدت بدورها قفزة في عوائد السندات لأجل 30 عاماً إلى أعلى مستوياتها منذ 14 عاماً، وهو ما يعكس اتساع نطاق الضغوط لتشمل حتى الاقتصادات الأكثر استقراراً في منطقة اليورو. ويشير محللون إلى أن هذه التطورات تكشف عن هشاشة الثقة بالسياسات المالية، حتى في أكثر الاقتصادات الأوروبية انضباطاً.
الضغوط تمتد إلى الأسواق العالمية
لم تقتصر موجة ارتفاع العوائد على أوروبا وحدها، بل امتدت لتشمل أسواق السندات العالمية. ففي الولايات المتحدة، تجاوز عائد سندات الخزانة لأجل 30 عاماً مستوى 5% للمرة الأولى منذ يوليو/ تموز، وسط مخاوف متنامية من اتساع العجز المالي نتيجة السياسات الضريبية السابقة، إضافة إلى الشكوك بشأن مستقبل الإيرادات الجمركية بعد حكم قضائي حديث. هذا الارتفاع يعكس شكوكاً لدى المستثمرين في قدرة واشنطن على ضبط أوضاعها المالية في ظل استمرار الخلافات السياسية حول دور البنك المركزي واستقلاليته.
وفي اليابان، ارتفعت عوائد السندات طويلة الأجل إلى مستويات قياسية، مدفوعة بارتفاع معدلات التضخم وضعف أسعار الفائدة الحقيقية، فضلاً عن حالة عدم اليقين السياسي. وبذلك، تصبح أكبر ثلاثة اقتصادات في العالم، الولايات المتحدة، اليابان، والاتحاد الأوروبي، في مواجهة مباشرة مع تحديات مشتركة تتمثل في تضخم مرتفع، وضغوط مالية، وتراجع ثقة المستثمرين التقليديين في السندات طويلة الأجل.
التداعيات الاقتصادية
يرى خبراء الاقتصاد أن هذه التطورات تنطوي على مخاطر حقيقية بالنسبة للاقتصادات المتقدمة. فارتفاع العوائد يفرض على الحكومات تكاليف أعلى للاقتراض، ويحد من قدرتها على استخدام السياسة المالية كأداة تحفيز.
كما يؤدي إلى مزاحمة القطاع الخاص على التمويل، ما قد يبطئ من وتيرة الاستثمار والنمو الاقتصادي.
ويذهب بعض المحللين إلى حد القول، إن العودة إلى سياسات التقشف قد تصبح «تحفيزية» في هذه المرحلة، إذ قد تسهم في استعادة ثقة الأسواق وخفض العوائد، بما يسمح للقطاع الخاص بالتنفس مجدداً. غير أن هذا الطرح يثير جدلاً واسعاً، خاصة مع ما قد يحمله من تبعات اجتماعية وسياسية في ظل الضغوط التضخمية الحالية.
طفرة الإصدارات الجديدة
ورغم هذه الأجواء المتوترة، تشهد أسواق الدَين العالمية طفرة غير مسبوقة في الإصدارات الجديدة. ففي أوروبا وحدها، بلغت قيمة الإصدارات الجديدة أمس الثلاثاء، رقماً قياسياً عند 57.7 مليار دولار، ضمن موجة تجاوزت 116 مليار دولار خلال أسبوع واحد فقط.
وشملت هذه الإصدارات شركات كبرى مثل «إنتركونتننتال هوتيلز» و«ديري آند كو»، إلى جانب دخول ليتوانيا إلى قائمة المصدرين السياديين بعد الطلب القوي على السندات البريطانية والإيطالية.
شهية إقراض كبيرة
يعكس هذا الاندفاع رغبة المقترضين في الاستفادة من الطلب القوي على العوائد المرتفعة، حيث يسعى المستثمرون إلى تثبيت مستويات دخل جذابة قبل أن يُقدم مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على خفض متوقع لأسعار الفائدة.
ويصف خبراء هذه الفترة بأنها «نافذة مثالية للإصدار»، في ظل قوة التدفقات الاستثمارية وضيق الفوارق الائتمانية.
توازن دقيق بين المخاطر والفرص
لكن هذا الزخم لم يخلُ من مؤشرات على حساسية السوق. فقد شهدت بعض الإصدارات تراجعاً حاداً في حجم الطلب عندما حاولت الشركات المصدرة تشديد شروط التسعير، كما حدث مع شركة «دانون» الفرنسية التي انخفضت طلبات سنداتها الهجينة من أكثر من 4 مليارات يورو إلى 1.25 مليار يورو فقط عند التسعير النهائي.
وفي الولايات المتحدة، طرحت 27 شركة سندات عالية الجودة في يوم واحد، بقيمة إجمالية بلغت 43.3 مليار دولار، وهو ثالث أكبر حجم يومي على الإطلاق.
وفي اليابان، تجاوزت الإصدارات السنوية من السندات المقومة بالدولار واليورو حاجز 100 مليار دولار لأول مرة. هذه الأرقام تعكس قوة الطلب العالمي على السندات، رغم التقلبات الحادة في الأسواق.
وتضع هذه التطورات أسواق الدين العالمية أمام مفارقة لافتة: ففي الوقت الذي تعاني فيه الحكومات ضغوط ارتفاع العوائد وتكاليف التمويل، يجد المستثمرون فرصاً جذابة في الإصدارات الجديدة بفضل العوائد المرتفعة والثقة النسبية في قوة الشركات الكبرى.
هذه الثنائية بين الخوف من عبء الديون السيادية والجاذبية الاستثمارية للسندات الجديدة ستظل محوراً رئيسياً في مسار الأسواق خلال الأشهر المقبلة.
ومع اقتراب اجتماعات البنوك المركزية وإعلان الموازنات الأوروبية، يبقى السؤال الأبرز: هل ستنجح الحكومات في إعادة بناء الثقة وكبح ارتفاع العوائد، أم أن الأسواق ستظل تعكس حالة عدم يقين مزمنة تدفع المستثمرين إلى إعادة رسم استراتيجياتهم؟
0 تعليق