حصان جنين.. عرضان مسرحيان في فلسطين وبريطانيا تقطعهما رصاصة واحدة - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

منى عرفات

Published On 2/9/20252/9/2025

|

آخر تحديث: 19:00 (توقيت مكة)آخر تحديث: 19:00 (توقيت مكة)

في قلب الإبادة، تتشابك أفكاري بين سؤالين يطاردانني: ما الجدوى؟ وكيف تستمر الحياة في حين تبث المذبحة مباشرة على الهواء؟

تتفاقم هذه العبثية حين تقدم المذبحة موضوعا لعمل فني أو مادة بصرية، أو خبرا عاجلا، أو رقما باردا نبتلعه كالعلقم. أسأل نفسي: هل الدموع هي كل ما أملك من مناصرة أو دعم؟

لكن على الضفة الأخرى من الوعي قبس صغير لا ينطفئ: المذبحة لا توقف رحلة الغد. الغد آت، وبعده 10 سنوات، والله أعلم كم سيستمر الكون بعدها. وعلى هذا، نحن والناجون علينا أن نحمي الغد، ألا نسمح له أن يصير نسخة باهتة من الأمس، وأن نفتش عن صهوة خيل عربي أصيل ما زال متمسكا بكرامته وكبريائه، فنمتطيه جميعا حتى تحط رحالنا في أرض حرة تليق بدمنا المسكوب.

الثقافة والفنون مثل حصان فحل لا يروّضه إلا فارس مغوار؛ إن تمكن منه قاده حيث شاء. كذلك الفن يفتح لصاحب القضية أبواب القلوب، ويصوغ معرفة جمعية جديدة. هكذا بدا علاء شحادة في عرضه المسرحي ذي الشخص الواحد: "حصان جنين" يقود جياد الذاكرة في مسقط رأس "بلفور" صاحب الوعد الشهير. يقاوم وزير الخارجية البريطاني الذي منح ما لا يملك لمن لا يستحق، ويمنح الفلسطينيين الشهداء أسماء، وينزع الأرقام عنهم ليذكّر العالم بالحياة التي عاشوها والمأساة التي ما زالت تعصف بهم.

بنى علاء عرضه كسلسلة من الفخاخ الناعمة؛ مقاومة تتخفى في ضحك وبكاء. تخرج منهكا ومتوازن العقل في آن: هل أصبحت كالشخصية التي جسّدها في جنين؟ أضحك وأبكي وأحادث نفسي؟

يظهر علاء بخفة ظل مكابرة؛ يتعمد منذ اللحظة الأولى أن يشيد صورة الشخص "الثقيل"، يبدأ بولادته التي افتخر بها والداه في المدينة. لكن هذه القشرة لا تصمد أمام موهبته وخفته؛ يراه الجمهور خفيفا ظريفا، موهوبا مثقلا بحياة لم تنصف أبناء جلدته.

ورغم تصنيف مسرحيته ضمن مسرح الشخص الواحد، فإننا في ساعة ضيافة علاء شحادة التقينا كثيرين. تبادل هؤلاء جميعا الظهور لنسمع الجد بصوته الحنون ونرى يديه المرتعشتين، الأم التي تحمل في يد حذاءها تريد أن تقذفه على ابنها، وفي الأخرى تحمل حبا فائضا، والصديق أحمد رفيق الطفولة والشغب، ونرى كثيرين غيرهم.

إعلان

أقنعة

استخدم علاء أقنعته بذكاء لافت، فالقناع هنا غلاف وغطاء يضع بينه وبين الشخصية طبقة عازلة رقيقة تخفف صدمات الذكرى وتفيض بها في الوقت نفسه. صممت الأقنعة بلمحة تهريج مقصودة؛ عينان لامعتان في وجه قاتم، ابتسامة ملتبسة لا تضحك، جسد يتحرك كدمية ماريونت على جسد بشري.

ومع ذلك، نقع نحن المشاهدين في شباكه المحكمة؛ بين الضحكات والإثارة، ترسم المخيلة جلدا لهذه الأقنعة التي تشبه شرائح عضلات الوجه، فتغدو وجوها نعرفها، ندرك مخيمهم وشوارعهم ومدرستهم ومستشفاهم المركزي ومسرحهم، نتعلق بهم كما لو كانوا مروا في حياتنا فعلا كما مروا في حياة علاء الذي يحافظ على موقعه في عزلة محسوبة عنهم؛ إنسان كامل، يحمل قضية، لكنها لا تعرفه كصاحب مأساة مثلما يصر العالم على تأطيره.

"حصان جنين" هو بطل الحكاية. يأخذنا العرض في رحلة كاملة: من جنين قبل الحصان، إلى تشكله وبنائه، فنصير أطفالا نلعب في الدوار مبهورين بجمال يتجسد حياة ويصير مكونا للهوية، لنرى فيه مراهقتنا وصبانا وذاكرتنا. وحين يفعل به الاحتلال فعلته، يتكشف معنى كل شيء: الاحتلال يعرف قيمة الحصان، وقيمة الفن، وقيمة الهوية، ويعرف العلاقة بينها كلها.

هنا تتضح غاية العرض: فعل مقاومة صريح للمحو، لطمس الهوية، للحرب المدروسة على نزع الإنسانية عن الإنسان بما تمكن القاتل من إبادته متى شاء وكيف شاء.

مسرح الحرية

في الذروة، يصحبنا علاء إلى جنين استعدادا لعرضه الأول على مسرح الحرية. فرح بثمرة جهد طويل وتدرب واستعداد. ثم ينصب الفخ الأكبر الذي بدأه منذ الدقيقة الأولى حين قارن بيننا وبين جمهور جنين، فأثار غيرتنا من خفتهم وحضورهم. دربنا على طريقة جمهور فلسطين، وحين حلت لحظة الافتتاح قال لنا: أنتم الآن جمهور جنين. لا مثلهم؛ أنتم هم. اضحكوا كما يضحكون، وتفاعلوا كما قصصت لكم عنهم. لحظتها نجد أرواحنا في فلسطين؛ نتبادل الوعي ونعيش هناك لثوان.

علم النفس يقول إن الجسد يستجيب لسيناريوهات العقل القلق كأنها حدثت: يتسارع النبض، تتلبك الأمعاء، يضطرب النفس. هناك، على مقاعد المسرح في إدنبرة، كنا بالفعل في جنين. نضحك كما ضحك حضور جنين. ثم تنطلق الرصاصات من حولهم كما حدث هناك. يغدر بالجمهورين معا، برصاصة واحدة. تنقطع الكهرباء عن المسرح المستهدف، فتنقطع عنا الإضاءة. تبحث أجسادنا عن رد فعلها الغريزي: قاتل أو اهرب. لكن ماذا لو لم يكن لدينا هذا الترف، ترف اختيار القتال أو الهرب!

في تلك اللحظة ندرك نفاقنا المريح: أعجبنا تبادل الأدوار لنكون الجمهور الأفضل؛ لنضحك من القلب ونستمتع بصحبة الخالات والجيران والمجتمع الدافئ ووجوه الحياة المحبة… لا لكي نواجه الحقيقة.

يقاوم علاء حتى اللحظة الأخيرة. نخرج معه لاكتشاف ما جرى، لنأخذ لمحة عما فعل الاحتلال خارج مسرحنا، كما فعل خارج مسرح الحرية في جنين.

ذلك الجمهور الذي ربما لم يعرف غزة إلا عبر شاشات الإبادة خرج من العرض يعرف أن غزة لا تختلف كثيرا عن سواها من مدن فلسطين، وأن الاحتلال واقع معيش لا يفصلنا عنه إلا بعض الحظ، وأن مبررات المذبحة تسكن عقل المستعمر، لا عقل المستعمر، خلافا لما حاولت "فنانة مسرح" آتية من نيويورك إقناع الفلسطينيين به.

قصص الحياة

المرة المقبلة، حين يبحث الخارجون من القاعة عن أخبار فلسطين، سيفتشون عن قصص الحياة والنجاة والطفولة والأفراح، ولن يمر اختزال الإعلام لهوية الفلسطيني في المأساة والضعف مرور الكرام. إن جهاز "بلاي ستيشن" أحمد الذي تحدث عنه علاء لم يخلد فقط في حصان جنين، بل في ذاكرة من حضروا العرض جميعا. سأراه في كل بريق طفولة يمر أمامي.

إعلان

لم يكن حصان جنين محظوظا في بلاده، لكن لعله يجد بعض السلوى في من روى قصته ومن مثلها ومن عرّف العالم به، والأكيد أنه محظوظ بفرسان شجعان حملوه مع هدايا الأجداد وإرثهم، وجعلوه في رحالهم حيثما رحلوا، ثم شاركوا إرثهم من المجد والمقاومة مع كل من مر بحكايتهم. هذا عرض يجعل الفن درعا للهوية، والضحك قناعا رقيقا لدمعة لا تستسلم، ويعيد للمسرح مهمته الأولى: أن يعلمنا كيف نحرس الغد.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق