الجزيرة نت تتتبع كواليس مهمة سرية لإنقاذ بذور السودان من جحيم الحرب - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في ديسمبر/كانون الأول 2023، اتخذت الحرب -التي اندلعت في السودان منذ أبريل/نيسان من العام نفسه بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع- منعطفا مقلقا عندما سقطت "ود مدني"، ثاني أكبر مدينة في البلاد، في قبضة الدعم السريع.

وخوفا من نهب قوات الدعم السريع المدينة كما فعلت في المناطق الأخرى التي مرت بها، أصدر عدد من الخبراء السودانيين نداءً لحماية منشأة محددة في ود مدني، ألا وهي بنك الجينات الزراعي، أحد أبرز المرافق البحثية وأهمها في السودان.

بقايا بذور متناثرة في معامل بنك الجينات بعد تعرضها للنهب والإتلاف
بقايا بذور متناثرة في معامل بنك الجينات بعد تعرضها للنهب والإتلاف (الجزيرة)

بنوك بذور أفرغتها الحرب

يُعد السودان، البلد الغني بالتنوع البيولوجي والإمكانات والتقاليد الزراعية العريقة، موطنا للعديد من المحاصيل الأساسية للنظم الغذائية المحلية والعالمية.

ومع ذلك، فقد عانى هذا البلد من المجاعة والفقر، وواجه تحديات جسيمة في الإنتاج الزراعي، وأصبح الصراع المتصاعد تهديدا مباشرا لسبل العيش والأمن الغذائي، ومستقبل التراث الزراعي المتنوع، مع خطر انقراض العديد من المحاصيل الزراعية.

خسر السودان بسبب الحرب المستمرة موسمين زراعيين متتاليين، إذ عجز المزارعون عن استغلال أراضيهم، ونتيجة لذلك يواجه اليوم أزمة غذائية وإنسانية خانقة.

يقول الدكتور الطاهر إبراهيم محمد المدير السابق لمركز صيانة وبحوث الموارد الوراثية النباتية الزراعية بهيئة البحوث الزراعية بالسودان، "حتى قبل الحرب، كانت بنوك البذور تواجه تحديات جسيمة مثل انقطاع الكهرباء المتكرر، ونقص الوقود، وضعف الكوادر، وقصور مرافق المختبرات". وأضاف في حديثه للجزيرة نت أن "النزاع الأخير جعل مجموعات البذور في مواجهة خطر التدمير المباشر".

كان بنك البذور السوداني، إلى جانب البنوك الحقلية للموارد الوراثية للموز والنخيل في "كسلا" وولاية نهر النيل، التي يديرها مركز صيانة وبحوث الموارد الوراثية النباتية الزراعية، يضم مجموعة من أكثر من 17 ألف عينة لأكثر من 30 محصولا، بما في ذلك الذرة الرفيعة والدّخن والقمح والسمسم، بالإضافة إلى العديد من المحاصيل الغذائية الأساسية الأخرى.

إعلان

وأوضح إبراهيم محمد أن "المركز التابع لهيئة البحوث الزراعية في السودان يعتبر واحدا من مراكز الموارد الوراثية الهامة في المنطقة، ويحتل موقعا أفضل مقارنة بالمنظومات الشبيهة في بعض الأقطار الأخرى، وذلك بما حققه من إنجازات بواسطة جمع آلاف الموارد الوراثية المتنوعة لمحاصيل ونباتات زراعية متباينة".

ويضيف "هذه الموارد ظلت تُجمع من مختلف أنحاء السودان على مدى 4 عقود، وتُحفظ داخل بنك مجهز للبذور لضمان التخزين طويل المدى لأغلب العينات، مع استمرار الأبحاث لتحديد حجم التنوع الوراثي وطبيعته. كما يجري توثيق هذه المدخلات عبر نظام متطور مرتبط بمنصة عالمية لإدارة معلومات الموارد الوراثية النباتية".

وانطلقت جهود جمع الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة عام 1982، وشملت الأنواع المزروعة والبرية لمختلف المحاصيل، مما عكس تنوع الإنتاج الزراعي في السودان، وجعل البنك الوطني في ود مدني مستودعا أساسيا للمواد الوراثية الداعمة للنظم الغذائية محليا وعالميا، لكن الحرب عاقت هذه الجهود وأوقفت عمل البنك بشكل طبيعي.

اتخذ الفريق قرارًا سريعًا وحاسمًا لحماية البذور من المزيد من التلف (هيئة البحوث الزراعية بالسودان)
اتخذ الفريق قرارا سريعا وحاسما لحماية البذور من المزيد من التلف (هيئة البحوث الزراعية بالسودان)

استجابة سريعة

انطلاقا من مدينة الأبيض، حيث يقع بنك جينات فرعي يحتفظ بقدر معتبر من  المداخيل الوراثية للمحاصيل والنباتات المختلفة التي تركوها وراءهم في البنك المركزي للموارد الوراثية بعد فرارهم من ود مدني، رأت إدارة المركز والعاملون فيه وغيرهم من المهتمين بأمره ضرورة وضع خطة إنقاذ عاجلة لتأمين ما لا يزال تحت يد وإشراف المركز قبل أن تناله يد قوات الدعم السريع.

وأوضح إبراهيم محمد أن "مركز صيانة وبحوث الموارد الوراثية النباتية الزراعية أدرك مبكرا أهمية النسخ الآمن للموارد الوراثية النباتية، فأنشأ عام 2005 وحدة فرعية بمحطة بحوث الأبيض لإيداع نسخ من بذور جُمعت من كردفان ودارفور تجاوزت 5 آلاف مدخل بحلول 2023، إضافة إلى أكثر من ألفي مدخل من مناطق أخرى".

وأضاف أن "المركز عمل كذلك حتى 2022 على إرسال عينات من البذور إلى القبو العالمي للبذور في سفالبارد بالنرويج، ليصل مجموعها في 2023 إلى أكثر من 2800 مدخل، بجانب نسخ أُودعت في مراكز بحثية بدول مثل بريطانيا وفرنسا والهند ونيجيريا".

استجابة لتطورات الحرب، اتخذ الفريق قرارا سريعا وحاسما لحماية البذور من المزيد من التلف، وبدأ في ظل ظروف صعبة بوضع خطة لاستخراج وتجهيز أكثر من 2000 عينة بذور من 19 محصولا مختلفا لنقلها إلى مكان آمن خارج البلاد.

رغم التحديات الكبيرة في إعداد قوائم الجرد، وضمان صلاحية البذور، وتجاوز العقبات القانونية واللوجستية، فإن الفريق نجح في تعبئة البذور وإرسالها من مدينة الأبيض إلى قبو سفالبارد في جزيرة سبيتسبيرغن بالنرويج، على بُعد أكثر من 7 آلاف كيلومتر من عاصمة ولاية شمال كردفان، حيث تحفظ داخل غرف جليدية في عمق القطب الشمالي.

تضمنت الشحنة بذور محاصيل زُرعت في المنطقة منذ آلاف السنين، أبرزها أصناف رئيسية من الدخن والذّرة الرفيعة، وهو محصول أساسي للأمن الغذائي بفضل مقاومته للجفاف وارتباطه بالتراث الزراعي والثقافي للبلاد.

إعلان

ويشير الطاهر إبراهيم محمد إلى أن هذه المحاصيل تمثل ركنا أساسيا في الزراعة السودانية منذ القدم، مؤكدا أنها ليست مجرد موارد محلية، بل تشكل دعامة حيوية للأمن الغذائي في السودان والمنطقة بأسرها، ولها أيضا قيمة إستراتيجية على مستوى الأمن الغذائي العالمي.

خطة متعددة المراحل

قبل التوجه إلى إحدى أقصى بقاع العالم شمالا، كان لا بد من إخراج البذور من الأبيض بأقصى درجات السرية الممكنة، ونقلها إلى بورتسودان -الميناء الرئيسي للبلاد الواقع في الشمال الشرقي- حيث يمكن إرسالها إلى الخارج.

لكن التحدي الأكبر -كما يقول إبراهيم محمد- كان إيجاد وسيلة آمنة لنقل هذه العينات بعد حزمها في طرود مناسبة، من مدينة الأبيض الواقعة وسط السودان إلى مدينة بورتسودان في أقصى شمال شرق البلاد على ساحل البحر الأحمر، مشيرا إلى أن "النقل عبر الطرق البرية المعتادة كان محفوفا بالمخاطر بسبب اشتداد العمليات العسكرية في مناطق عديدة على طول الطريق، مما أدى إلى توقف خدمات النقل البري السريعة خلال الربع الأخير من عام 2024.

ولتجنب أي مشاكل محتملة عند نقاط التفتيش، نُقلت البذور في شاحنة مدنية، وأخفيت بعناية تحت الحمولة، دون مرافقة أي من موظفي مركز أبحاث البذور لتجنّب لفت الأنظار، وسلكت طرقا ترابية نائية غير مألوفة لقوات الدعم السريع بعيدا عن نقاط التفتيش.

وجاءت المهمة بدعم من منظمة "كروب ترست"، وهي منظمة دولية تعمل على الحفاظ على التنوع الجيني للمحاصيل، والمساهمة في حماية الأمن الغذائي العالمي.

بعد مرور 10 أيام على الطريق، وصلت البذور أخيرا إلى بورتسودان، وهناك كان في استقبالها مدير المركز وعدد من الفنيين الذين أشرفوا على معاينتها وفرزها وإعادة تعبئتها داخل صناديق محكمة، وبذلك انقضى النصف الأول من المهمة المحفوفة بالمخاطر، وهو الجزء الأكثر تحديا.

بمجرد وصول الشحنة (3 صناديق من البذور) إلى بورتسودان، أصبح إرسالها إلى النرويج ممكنا عبر خدمة البريد السريع التابعة للبريد الوطني السوداني "سودابوست"، إحدى آخر مؤسسات الدولة العاملة جزئيا.

في طريقها إلى سفالبارد، توقفت البذور في مركز المعرفة للموارد الوراثية في دول الشمال الأوروبي (نوردجين)، وهو منظمة مكرسة للحفاظ على الموارد الوراثية المهمة للأغذية والزراعة في دول الشمال الأوروبي وتعزيز استخدامها القابل للديمومة، وتشغّل قبو سفالبارد العالمي للبذور بالتنسيق مع منظمة "كروب تراست" ووزارة الزراعة والأغذية النرويجية.

وهناك، ساعد المركز في فحص العينات القادمة من السودان وتوثيقها وإعادة تعبئة بعض العينات من جديد بعد تلف مظاريفها، ثم تمّ توثيقها بشكل كامل للتأكد من أنها ستكون مجهزة جيدا للتخزين في سفالبارد في السنوات القادمة.

استغرق عمل فنيي البذور في "نوردجين" بضعة أيام، لكنه استثمار ثمين بالنظر إلى الأهمية الحيوية لهذه البذور لمستقبل القطاع الزراعي في السودان، وفقا لوصف يوهان أكسلسون المسؤول عن مختبر بذور "نوردجين" في بيان رسمي.

بنك الجينات الوراثية النباتية بود مدني- آثار الدمار بمعمل تجفيف واختبارات البذور
آثار الدمار بمعمل تجفيف واختبارات البذور في بنك الجينات الوراثية النباتية بود مدني (الجزيرة)

 

الوصول إلى الملاذ الآمن

في 25 فبراير/شباط 2025، وصلت البذور السودانية أخيرا إلى قبو سفالبارد العالمي، بالتزامن مع أحد مواعيد فتح القبو الدورية لإيداع العينات الواردة من مختلف أنحاء العالم، وتم حفظها في أعماق جبل جليدي داخل أكثر منشأة لحماية الموارد الزراعية الوراثية تحصينا في العالم.

لم يكن السودان وحيدا في مواجهة صعوبات جمة في حماية مستقبل التنوع والتراث الزراعي، فقد استقبل سفالبارد في ذلك الشهر أكثر من 14 ألف عينة من البذور من 19 بنكا جينيا آخر اختارت الاحتفاظ بنسخ احتياطية من بذورها في منشأة القطب الشمالي آنذاك.

إعلان

لا تهدد الحروب وعدم الاستقرار السياسي السودان فحسب، بل تواجه بنوك الجينات حول العالم أيضا مخاطر طبيعية واقتصادية جسيمة، من فيضانات وأعاصير وزلازل إلى أزمات مالية، تقوض قدرة هذه البنوك على حماية الموارد الوراثية النباتية الحيوية للأغذية والزراعة، وربما تؤدي إلى فقدان أصول وراثية ثمينة لا تعوّض.

وقد تمكنت العديد من هذه الدول من حماية بذورها للمستقبل عبر التجديد والتخزين المتكرر في قبو سفالبارد، بدعم مما يسمى مشروع التنوع البيولوجي من أجل الفرص وسبل العيش والتنمية "بولد" (BOLD)، الممول من الحكومة النرويجية بقيادة "كورب ترست"، بالتعاون مع الجامعة النرويجية لعلوم الحياة والمعاهدة الدولية للموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة.

في أكبر منشأة احتياطية في العالم للبذور وتنوع المحاصيل، حيث تحتفظ النرويج بأكثر من مليون عينة من بذور العالم، أسفرت هذه العملية متعددة المراحل عن إيداع نسخ من 1884 عينة سودانية مميزة وفريدة من نوعها، تمثل 15 نوعا من المحاصيل التقليدية، ليصل العدد الكلي للمداخل السودانية المحفوظة بأمان في القبو العالمي إلى ما يزيد عن 4500 مدخل، وفقا للطاهر إبراهيم محمد.

وتشمل هذه الموارد الوراثية محاصيل أساسية مثل الذرة والدّخن واللوبيا والسمسم والفول السوداني، وخضروات متنوعة مثل الطماطم والفلفل والباذنجان والبامية، وبعض أنواع القرعيات وغيرها من المحاصيل المتنوعة، مما يمثل خطوة جوهرية لحماية التراث الزراعي السوداني وضمان استمراريته.

وعلى بعد آلاف الأميال جنوبا، وفي بيئة أدفأ بحوالي 40 درجة مقارنة بقبو سفالبارد، أعرب إبراهيم محمد عن رضاه بالإيداع الأخير من السودان، فقد أصبح أكثر من 25% من بذور بنك الجينات محفوظا هناك، مما يعزز أمان الزراعة السودانية، ويسهم في الأمن الغذائي العالمي.

ورغم هذا الإنجاز، أشار إلى أن هناك حاجة إلى بذل المزيد من الجهود والتعاون مع المجتمع الدولي لحماية بقية الموارد الوراثية السودانية في سفالبارد بسرعة من المخاطر المحتملة الناجمة عن ظروف كالحرب الحالية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق