بريطانيا إحدى أبرز القوى الاقتصادية عالميا، غير أن واقعها الداخلي في السنوات الأخيرة يكشف عن ضغوط متصاعدة وضعت الاقتصاد والمجتمع أمام اختبارات صعبة، فقد أصبح التوازن بين متطلبات النمو واحتياجات الاستقرار الاجتماعي أكثر تعقيدًا، الأمر الذي انعكس مباشرة على حياة المواطن وقدرته على مواجهة تكاليف المعيشة اليومية.
هذا المشهد الداخلي لم يعد مجرد قضية اقتصادية بحتة، بل أصبح محور نقاش واسع حول قدرة السياسات القائمة على التعامل مع الضغوط المتراكمة وانعكاساتها المباشرة على حياة المواطن.
ومن هنا، يعرض هذا المقال أهم التحديات التي تواجه الاقتصاد البريطاني في المرحلة الحالية، وما قد تفضي إليه هذه الضغوط من نتائج داخلية تمس النمو والاستقرار المعيشي.
1- الدين العام في بريطانيا
يشهد الاقتصاد البريطاني منذ الأزمة المالية العالمية تصاعدا مستمرا في المديونية، ما جعله أحد أبرز التحديات أمام السياسات الاقتصادية والمالية، وترتبط المخاطر بارتفاع الدين الحكومي، وتراكم مديونية القطاع الخاص، واتساع الانكشاف الخارجي، وازدياد أعباء خدمة الدين، وفق هذه النقاط:
أولًا: الدين السيادي (ديون الحكومة المركزية)
يمثل الدين السيادي إجمالي التزامات الجهات الحكومية، داخليًا وخارجيًا، من دون احتساب ديون الأسر أو الشركات ارتفع من نحو 40% من الناتج المحلي قبل أزمة 2008 إلى قرابة 104% في عام 2025، أي ما يقارب 3.2 تريليونات جنيه إسترليني (4.28 تريليونات دولار)، ويُظهر مسار التدفقات استمرار الصعود؛ إذ بلغ صافي الاقتراض في الربع الأول من السنة المالية 2025 /2026 (السنة المالية البريطانية تبدأت في الأول من أبريل وتنتهي في 31 مارس) نحو 57.8 مليار جنيه إسترليني (77.46 مليار دولار) بزيادة 7.5 مليارات جنيه استرليني (10 مليارات دولار) عن الفترة نفسها من العام السابق، وفقًا إلى المكتب الوطني للإحصاءات.
ثانيًا: ديون الأسر والشركات
تجاوزت ديون الأسر والشركات غير المالية 117% من الدخل المتاح، ما يعادل 3.16 تريليونات جنيه إسترليني (4.23 تريليونات دولار)، وبموجب هذه النسبة يُقدَّر مجموع الدخل المتاح للأسر بحوالي 2.7 تريليون جنيه إسترليني (3.61 تريليونات دولار) كتقدير حسابي متحفظ.
إعلان
ويبلغ متوسط الدخل المتاح للأسرة الواحدة 36700 جنيه إسترليني (49189 دولار) سنويًا، وفقًا إلى المكتب الوطني للإحصاءات في بريطانيا لعام 2024، وعلى أساس الناتج المحلي، تمثل ديون الأسر 76% وديون الشركات غير المالية 61% ليبلغ مجموع مديونية القطاع الخاص 137%.
ثالثًا: الدين الخارجي
يُقدَّر الدين الخارجي للمملكة المتحدة بنحو 8 تريليونات جنيه إسترليني (10.72 تريليونات دولار) في عام 2025، أي أكثر من 3 أضعاف الناتج المحلي، ويشمل التزامات القطاع الخاص من بنوك ومؤسسات مالية وشركات غير مالية إلى جانب جزء من الدين السيادي الخارجي، ما يزيد انكشاف الاقتصاد أمام تقلبات الأسواق وأسعار الفائدة العالمية.

رابعًا: خدمة الدين
ارتفعت تكاليف الخدمة من 41 مليار جنيه إسترليني (54.95 مليار دولار) في 2019 إلى نحو 106.7 مليار استرليني (143 مليار دولار) في 2025 بما يقارب 9% من الإنفاق الحكومي، مع توقع بلوغها 122 مليارًا (163.5 مليار دولار) بحلول 2030، وتُقدَّر فوائد السنة المالية 2025 /2026 بنحو 111 مليار جنيه إسترليني (148.4 مليار دولار)، وفقًا إلى المكتب الوطني للإحصاءات في بريطانيا. ويحد ذلك من الموارد المتاحة للاستثمار والخدمات العامة
2- السندات الحكومية وعوائدها
شهدت سوق السندات البريطانية نموًا كبيرًا خلال العقدين الماضيين، إذ ارتفعت قيمتها من 414 مليار جنيه إسترليني (554.88 مليار دولار) في 2006 إلى نحو 2.575 تريليون جنيه (3.54 تريليونات دولار) في يوليو/ تموز 2025، أي بزيادة تتجاوز 600% خلال 20 عامًا وبنحو 40% في السنوات الست الأخيرة، ما يعكس زيادة اعتماد الحكومة على الاقتراض.
وفيما يخص العوائد، ارتفع العائد على السندات لأجل عشر سنوات من 3.95% قبل عام إلى 4.74 -4.77% في أغسطس/ آب 2025، بزيادة تقارب 20%، أما السندات لأجل 30 عامًا فبلغ عائدها 5.59 – 5.62% في أغسطس/ آب 2025، وهو الأعلى منذ عام 1998.
واللافت أن عوائد السندات البريطانية تجاوزت نظيرتها اليونانية، رغم أن اليونان ارتبطت طويلًا بضعف أوضاعها المالية، ويشير ذلك إلى حذر متزايد في الأسواق تجاه استقرار المالية العامة في بريطانيا، وهذه المستويات تعني ارتفاع تكلفة الاقتراض الحكومي وفاتورة خدمة الدين، ما يضيف مزيدًا من الضغوط على الموازنة في ظل عجز مالي وتحديات متنامية في مجالات الصحة والرعاية الاجتماعية.
3- الإيرادات الضريبية
تشكل الضرائب المصدر الرئيسي لتمويل المالية العامة في بريطانيا، فقد بلغت الحصيلة في 2024 /2025 نحو 1.02 تريليون جنيه إسترليني (1.36 تريليون دولار)، أي ما يعادل 35-36% من الناتج المحلي المقدر بحوالي 2.9 تريليون جنيه (3.8 تريليون دولار)، وتشكل الضرائب قرابة 89% من إجمالي الإيرادات الحكومية البالغة 1.14 تريليون جنيه (1.52 تريليون دولار) وفقًا لتقديرات مكتب المسؤولية الميزانية والمكتب الوطني للإحصاءات. ويُذكر أن الناتج المحلي يمثل ما يُنتَج من سلع وخدمات خلال عام، بينما تعكس الإيرادات الحكومية ما تجمعه الدولة من ضرائب ورسوم.
وتتوزع الحصيلة بين ضريبة الدخل (42%)، القيمة المضافة (19%)، ضرائب الشركات (8.1%)، إضافة إلى ضرائب أخرى مثل التأمينات الوطنية والرسوم الانتقائية، والأملاك، والدمغة، والميراث.
إعلان
ورغم هذا التحصيل الكبير، ما زالت المالية العامة تحت ضغط، إذ بلغ العجز في 2024 /2025 نحو 152 مليار جنيه إسترليني (203.72 مليار دولار) (5.3% من الناتج المحلي) مقابل تقديرات سابقة عند 137 مليارًا (183.62 مليار دولار).
وللمقارنة، كان العجز قبل جائحة كورونا أقل من 50 مليارًا (67 مليار دولار) سنويًا، وتُناقَش حاليًا مقترحات مستقبلية مثل إصلاح ضرائب العقارات أو فرض ضريبة على العقارات الفاخرة.
وتشير التقديرات إلى أن الحصيلة ستظل قريبة من المستويات الحالية (35–36% من الناتج المحلي)، وهي من الأعلى في تاريخ بريطانيا الحديث، ومع اقتراب ميزانية الخريف، تواجه الحكومة ضغوطًا لتأمين موارد إضافية والحفاظ على استقرار الموازنة، وسط خيارات محدودة بين زيادة الضرائب، خفض الإنفاق أو مزيد من الاقتراض
4- التضخم وضعف الإنتاجية
يواجه الاقتصاد البريطاني تحديات متزايدة نتيجة تراجع الطلب وارتفاع الأسعار، فقد أظهر مسح اتحاد الصناعات البريطانية أن مبيعات التجزئة وهي حجم المبيعات في المتاجر والمراكز التي تبيع مباشرة للمستهلكين مثل المواد الغذائية والملابس والأجهزة سجلت في أغسطس/ آب 2025 قراءة عند (ناقص 32 نقطة) ما يعني أن نسبة أكبر من المتاجر أبلغت عن تراجع المبيعات مقارنة بتلك التي سجلت زيادة، وهو ما يعكس استمرار ضعف القوة الشرائية للأسر.
على صعيد الأسعار، بلغ معدل التضخم السنوي 3.8% في يوليو/ تموز 2025، بينما وصل المؤشر الأشمل الذي يضم تكاليف السكن إلى نحو 4.2%، وأسهمت أسعار الغذاء والطاقة في الجزء الأكبر من الضغوط، إذ سترتفع فواتير الطاقة إلى ما يقارب 1755 جنيهًا (2352 دولار) سنويًا اعتبارًا من أكتوبر/ تشرين الأول.
أما على صعيد الإنتاجية ما يُنتَج لكل ساعة عمل فقد دخلت البلاد في حالة "ركود إنتاجي"؛ فبينما كان النمو قبل الأزمة المالية العالمية يقارب 2% سنويًا، لم يتجاوز خلال العقد الأخير نصف هذا المستوى، ما يجعل الاقتصاد أقل قدرة على توليد نمو حقيقي ويضاعف أثر التضخم على الأسر، إذ تراجعت الدخول الحقيقية للشرائح المتوسطة والمنخفضة بشكل ملحوظ، مما يجعل أزمة تكاليف المعيشة من أخطر التحديات الراهنة أمام الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.

5- سوق العمل
يواجه سوق العمل البريطاني تحديات متزايدة رغم بقاء المعدل الرسمي للبطالة عند مستويات متوسطة. ففي منتصف 2025 بلغ عدد المستفيدين من إعانات البطالة والدعم الاجتماعي نحو 6.5 مليون شخص، أي ما يعادل 15% من سكان سن العمل البالغ عددهم قرابة 43 مليون نسمة، وما يقارب 10% من إجمالي السكان البالغين نحو 67 مليونًا وتشمل هذه الأعداد الباحثين عن عمل، إضافة إلى فئات غير قادرة على العمل لأسباب صحية أو مرتبطة ببرامج رعاية طويلة الأجل وقد ارتفعت النسبة من 9% قبل 10 سنوات إلى 15% حاليًا، ما يعكس اتساع دائرة الاعتماد على الدعم الاجتماعي.
أما معدل البطالة الرسمي فقد بلغ 4.7% في الربع الثاني من 2025، أي نحو 1.67 مليون باحث عن عمل، وهو أعلى من مستوياته ما قبل الجائحة (3.8%) لكنه يظل أقل من فرنسا (7.4%) وأعلى قليلًا من ألمانيا (3.6%) والولايات المتحدة (4.1%).
في المقابل، يُظهر القطاع الخاص هشاشة واضحة إذ انخفضت نوايا التوظيف إلى 57% فقط، وهو أدنى مستوى منذ ما قبل جائحة كورونا وتبرز الضغوط خصوصًا في قطاع الضيافة والمطاعم، حيث تضطر بعض المؤسسات إلى إغلاق يوم إضافي أسبوعيًا لتقليل النفقات، فيما تفيد تقديرات بأن منشأة ترفيهية واحدة سواء مطعمًا أو حانة أو مرفقا تغلق نهائيًا يوميًا بسبب التراجع الحاد في الإيرادات وارتفاع التكاليف.
هذه المؤشرات تكشف أن سوق العمل لا يواجه أزمة بطالة فحسب، بل أزمة هيكلية أوسع تهدد الاستقرار الاقتصادي والمعيشي.

6- انعدام الأمن المعيشي
لا يقتصر مفهوم انعدام الأمن على غياب الشرطة أو تفشي الجريمة، بل يعني فقدان الاستقرار المعيشي حين تعجز الأسر عن تلبية احتياجات أساسية مثل الدخل، السكن، الصحة، العمل أو الرعاية. وتزداد خطورته عندما تتداخل هذه الجوانب معًا، وهو ما يُعرف بـ "الانعدام المتعدد"، كالتالي:
إعلان
– الجانب المالي: يقصد به صعوبات إدارة الدخل مثل العجز عن سداد الفواتير أو تدهور الوضع الاقتصادي حيث ارتفع بنحو 6 نقاط مئوية خلال العقد الأخير ليصل في 2022 /2023 إلى 47% من البالغين، أي أن نصف السكان تقريبًا فقدوا الأمان المالي.
– الجانب الصحي: يشمل الأمراض المزمنة، الضغوط النفسية أو الإعاقات التي تحد من القدرة على العمل، ويمس 46% من البالغين.
– الجانب السكني: يرتبط بصعوبة دفع الإيجار أو استنزاف أكثر من 30% من الدخل أو عدم الاستقرار بسبب العقود القصيرة. وقد طالت هذه الصعوبات 27% من السكان.
– الجانب الوظيفي: يتعلق بالعاملين في وظائف غير مستقرة، أجر منخفض أو تعرضهم للفصل بسبب الأعباء الصحية أو الرعاية، وقد شمل 36% من البالغين.
– الرعاية: يشير إلى تقديم دعم غير مدفوع مثل رعاية كبار السن أو ذوي الاحتياجات الخاصة، وأثّر على 16% من السكان.
– الجانب الغذائي: يقيس قدرة الأسر على الحصول على غذاء كافٍ ومنتظم، ففي العام المالي 2023 /2024 عانى نحو 7.5 مليون شخص، أي ما يعادل 11% من السكان، من انعدام الأمن الغذائي وفي يونيو/ حزيران 2024، أظهرت بيانات أحدث تفاقم الوضع، إذ واجهت 13.6% من الأسر صعوبات حادة في تأمين الغذاء، وهو ما انعكس على نحو 7.2 مليون بالغ و2.7 مليون طفل. ثم جاءت تطورات عام 2025 لتزيد الضغوط، حيث ارتفعت أسعار الغذاء بنسبة 4.2% في أغسطس/ آب، واضطرت بعض الأسر ذات الدخل المحدود إلى إنفاق ما يقارب 70% من دخلها المتاح على الغذاء.
7- الانعدام المتعدد: يقصد به اجتماع أكثر من جانب لدى الفرد أو الأسرة ارتفع من 8.1% في 2009 /2010 إلى 8.5% في 2022 /2023، أي ما يعادل 5.2 مليون شخص
هذه المؤشرات تؤكد أن انعدام الأمن المعيشي بات عاملًا جوهريًا يضعف الإنتاجية ويهدد التعافي الاقتصادي.
7- التجارة الخارجية
سجّل ميزان التجارة البريطاني عجزًا يعادل 1.1% من الناتج المحلي في 2024 نحو 32.3 مليار جنيه إسترليني (43.3 مليار دولار)، ورغم أن الرقم لا يعكس أزمة مباشرة، فإنه يكشف عن فجوة مستمرة بين الإنتاج المحلي والاستهلاك، مع تراجع الصادرات إلى الولايات المتحدة بنسبة 14.5% في منتصف 2025، وبقاء العجز مع الاتحاد الأوروبي، كما يغطي الإنتاج المحلي نحو 60% فقط من الغذاء، بينما يعتمد الباقي على الواردات.
وفي المجمل، يعكس المشهد الاقتصادي في بريطانيا أزمة متعددة الأبعاد، فالتضخم المرتفع والدين العام المتزايد ليسا سوى ملامح ظاهرية لمشكلات أعمق، فالإنتاجية الضعيفة منذ أكثر من عقد، وتزايد الأعباء الاجتماعية، وضغوط سوق العمل، إلى جانب خروج بعض الاستثمارات، تكشف عن ضعف داخلي وفي محاولة لسد الفجوات، تلجأ الحكومة إلى فرض ضرائب إضافية، غير أن هذه الإجراءات قد تؤثر سلبًا على الاستهلاك والاستثمار في الأمد القريب.

وتضيف تحذيرات صندوق النقد الدولي بُعدًا أكثر خطورة، إذ تؤكد أن استمرار هذه الاتجاهات سيقيد قدرة بريطانيا على المناورة في ظل بيئة دولية ضبابية تتسم بتصاعد الحروب التجارية والتوترات الجيوسياسية، وهو ما يضعف مناعة الاقتصادات المفتوحة ويؤثر على مكانة بريطانيا الدولية.
وهنا يبرز جانب آخر؛ فحزب العمال الذي يقود الحكومة اليوم يقف أمام مشهد يذكّر بأزمة 1976 برئاسة جيمس كالاهان، حين اضطرت بريطانيا لطلب دعم صندوق النقد وما تبعه من تقشف انتهى بـ “شتاء السخط" وإضرابات واسعة. ورغم اختلاف بعض الظروف الآن، فإن أوجه التشابه في الضغوط الاقتصادية والاجتماعية تبقى واضحة.
0 تعليق