في عالم اليوم، لم تعد القوة تقاس بالترسانات العسكرية وحدها، بل بالسيطرة على الموارد الحيوية التي تشكل عصب الاقتصاد الحديث. وتعد المعادن النادرة، التي تدخل في صناعة كل شيء من الهواتف الذكية إلى أنظمة الدفاع، واحدة من أهم هذه الموارد.
لقد أظهرت هيمنة الصين على هذا السوق أنها يمكن أن تكون مصدر نفوذ استراتيجي، مما وضع الدول التي تعتمد عليها في موقف معقد. في هذا السياق، تبرز قصة اليابان والولايات المتحدة كنموذجين متناقضين للاستجابة.
فبينما تحركت طوكيو بسرعة عبر سياسات منسقة لتأمين مستقبلها التكنولوجي، بدا أن واشنطن تكتفي بردود فعل متأخرة. فما الذي جعل اليابان أكثر استعداداً لمواجهة هذا التحدي؟ وهل يمكن لأميركا أن تتعلم من تجربة حليفتها لكسر هيمنة بكين؟
في عام 2010، سلّطت دراسة حكومية أميركية، بتكليف من الكونغرس، الضوء على كيف أن هيمنة الصين في سوق المعادن النادرة منحتها القدرة على التأثير على العرض والأسعار العالمية. وأظهرت الدراسة أن إعادة بناء سلسلة توريد المعادن النادرة في الولايات المتحدة قد تستغرق ما يصل إلى 15 عاماً.
لكن واشنطن لم تُنظّم عملية إعادة بناء كهذه، على الرغم من أهمية المغناطيسات المصنوعة من المعادن النادرة في عدد لا يُحصى من المنتجات الدفاعية والاستهلاكية. والنتيجة، استغلت بكين هيمنتها بالفعل للتأثير على العرض. وقد ثبت أن هذا النفوذ حاسم عندما فرض الرئيس دونالد ترامب تعرفات جمركية باهظة على الصين كجزء من حربه التجارية العالمية، وساعد في إجبار واشنطن على الهدنة التي هي قائمة الأن، وذلك بحسب تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وعلى الجانب الآخر، أوضح التقرير أن اليابان أظهرت استجابة مختلفة تماماً. فبعد أشهر قليلة من صدور التقرير الأميركي، تلقت طوكيو درساً مباشراً عندما استخدمت الصين نفوذها لتقييد صادرات المعادن النادرة خلال نزاع حول السيادة في بحر الصين الشرقي. في ذلك الوقت، كانت اليابان تعتمد على الصين للحصول على حوالي 90 بالمئة من احتياجاتها. هذا الموقف دفع صانعي السياسات في طوكيو لاتخاذ إجراءات منسقة وسريعة بقيادة وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة (METI.
4 استراتيجيات للنهج الياباني
ولخص التقرير النهج الياباني في أربع استراتيجيات رئيسية: تنويع مصادر الإمداد، وإعادة تدوير المواد، وتقليل كثافة الاستخدام، وتحديد بدائل مناسبة. ونظراً لعدم امتلاكها موارد طبيعية كافية، قامت اليابان بتمويل مشاريع مشتركة مع حلفاء مثل أستراليا، وخصوصاً شركة "لايناس للمعادن النادرة المحدودة" (Lynas Rare Earths Ltd.)، لضمان استمرارية الإمداد من مصادر غير صينية. كما عملت على التنسيق بين شركات القطاع الخاص، وسنّت تشريعات لتسريع الواردات وبناء احتياطيات استراتيجية.
وأضاف التقرير: "بفضل هذا النهج الشامل، تمكنت اليابان من تقليص اعتمادها على المعادن النادرة من الصين إلى 60 بالمئة، وتستهدف الوصول إلى أقل من 50 بالمئة بنهاية عام 2025. وفي المقابل، بينما اتخذت وزارة الدفاع الأميركية بعض الإجراءات لمعالجة نقاط الضعف الدفاعية، فإن جهودها لم تتجاوز القاعدة الصناعية الأوسع. ويرى الخبراء أن الشركات الأميركية ستستمر في شراء المعادن والمغناطيسات من الصين ما دامت هذه المصادر أكثر فعالية من حيث التكلفة، مما يُبقي الولايات المتحدة عرضة للنفوذ الاقتصادي الصيني.
بدوره، يقول كريس كينيدي، المسؤول عن المهارات الاقتصادية في بلومبرغ إيكونوميكس: "إن وزارة الدفاع الأميركية ستظل تركز على احتياجاتها الضيقة. كما أن الاستراتيجية التي تركز على الداخل تفشل في الاستفادة القصوى من موارد وقدرات حلفاء وشركاء الولايات المتحدة، مثل أستراليا".
ويضيف كينيدي: "نحن لا نُصلح المشكلة الأساسية، ستواصل الشركات الأميركية شراء المعادن والمغناطيسات من الصين طالما أن ذلك أكثر فعالية من حيث التكلفة".
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي: "كانت اليابان تعتمد بشكل شبه كامل على الصين في الحصول على المعادن الأرضية النادرة، وهي عنصر أساسي في تصنيع المغناطيسات عالية الأداء ومختلف التقنيات المتقدمة. وفي عام 2010 حدثت ازمة تصادم قارب صيني بسفن الشحن اليابانية أدت الى توقف مفاجئ لشحنات المعادن الأرضية النادرة، مما كشفت عن مدى ضعف اليابان الحاد. وقد حفزت هذه الأزمة استجابة شاملة ومنسقة أحدثت نقلة نوعية في مرونة سلسلة التوريد اليابانية. ويمكن للتجربة الأميركية في مواجهة مخاطر مماثلة في سلاسل توريد المعادن الحيوية، أن تستخلص رؤى قيّمة من استراتيجية اليابان متعددة الجوانب".
ماذا فعلت اليابان بعد هذه الواقعة؟
يجيب الدكتور الشناوي على هذا التساؤل وفقاً لمايلي:
قامت الياباني بحشد غير مسبوق من الأموال للتخفيف من حدة الأزمة وقد صُممت هذه الاستجابة المالية السريعة ليس فقط لتثبيت الأسعار التي شهدت ارتفاعاً حاداً، بل أيضاً لإرساء أسس استراتيجية طويلة المدى تهدف إلى الحد من الاعتماد المفرط على مصدر واحد. تنويع مصادر إمدادات المعادن الأرضية النادرة كان بعداً محورياً في استراتيجية اليابان، حيث كان ما يقرب من 90 بالمئة من وارداتها يأتي من الصين، مما جعلها معرضة للخطر بشكل كبير. وسعت اليابان قاعدة الموردين لها من خلال الانخراط في الجهود الدبلوماسية وإقامة شراكات استراتيجية مع الدول التي تمتلك احتياطيات غير مستغلة من المعادن الأرضية النادرة. زيادة الاستثمارات في مشروعات التعدين وتوقيع اتفاقيات دولية، لا سيما مع أستراليا، الدولة التي برزت كبديل رئيسي توسيع نطاق المبادرات لتشمل مناطق أخرى مثل ميانمار وفيتنام. ولم يقتصر هذا التواصل الدولي على تأمين المواد الخام؛ بل لعبت المؤسسات اليابانية المدعومة من الدولة دوراً فعالاً في الاستثمارات العالمية. وترتب على ما سبق انخفض اعتماد اليابان من 90 بالمئة إلى حوالي 60 بالمئة خلال السنوات التالية.دور الابتكار التكنولوجي
وأوضح أن كل ما سبق تزامن مع نقطة غاية في الأهمية وهي إدراك اليابان لدور الابتكار التكنولوجي للحد من المخاطر المستقبلية، ولذلك أطلقت الحكومة برنامجا للمنح البحثية التنافسية لتعزيز تطوير تقنيات إعادة التدوير والبحث عن مواد بديلة يمكن أن تحل محل العناصر الأرضية النادرة في التطبيقات الحيوية. بالإضافة إلى تزويد الصناعات بالمرونة اللازمة للتحول عن المواد الخاضعة للضغوط الجيوسياسية. عن طريق التركيز الأوسع على الأبحاث والذي أكد إصرار اليابان على تحقيق المرونة في سلاسل الامداد العالمية في الاجل الطويل.
وأشار الدكتور الشناوي إلى أن تلك الجهود تجسدت على أرض الواقع في:
إنشاء الاحتياطي الاستراتيجي من خلال التخزين والذي كان بمثابة أحد مرتكزات الاستراتيجية اليابانية في موضوع المعادن النادرة مما خلق تنافسية محمودة بين الشركات اليابانية في تجميع المعادن النادرة. طوّرت اليابان هذا النهج مع مرور الوقت لضمان أن يكون التخزين بمثابة حاجزٍ فعالٍ ضد صدمات العرض دون التأثير على ديناميكيات السوق. ويرجع ذلك لعدم القدرة على التنبؤ بنزاعات التجارة الدولية واحتمالية فرض حظرٍ قصير الأجل أو اضطراباتٍ أخرى. أدركت اليابان أن الاعتماد على استخراج المواد الخام الأولية سيظل مصدر ضعف مستمر، ولذلك قامت بالاستثمار في إعادة التدوير وتطوير اقتصاد دائري للعناصر الأرضية النادرة. ولذلك دعمت اليابان الأبحاث والبنية التحتية الهادفة إلى استعادة العناصر الأرضية النادرة من المنتجات التي انتهى عمرها الافتراضي.تجربة الولايات المتحدة مع المعادن النادرة
وفيما يتعلق بتجربة الولايات المتحدة الأميركية مع المعادن النادرة والنفوذ الذي استخدمته الصين في هذا المجال قال الخبير الاقتصادي الشناوي: "أدركت إدارة ترامب أهمية المعادن ولذلك ركزت على ضرورة زيادة الإنتاج المعدني الأميركي خاصة المعادن النادرة. مع اعترافٌ الحزبين الجمهوري والديموقراطي بالقيمة الاستراتيجية لهذه المعادن، سواءً للأمن القومي أو لمجموعة واسعة من التقنيات المتقدمة".
ولما كانت الصين تسيطر على حوالي 90 بالمئة من إنتاج المعادن النادرة عالمياً، وتبلغ هيمنتها حداً هائلاً يدفع بعض الشركات الغربية إلى إرسال موادها النادرة إلى الصين لمعالجتها. ومع فرض الصين ضوابط على صادرات المعادن الأرضية النادرة ونظراً لكونها محوراً رئيساً لمحادثات التجارة الأميركية الصينية ازداد التحدي الذي تواجهه أميركا، بحسب تعبيره.
ولفت إلى أن النجاح لم يحالف الولايات المتحدة مثل اليابان لعدة أسباب منها، عدم اهتمام شركات التعدين اهتماماً يُذكر باستكشاف أو تطوير المعادن الحيوية، والنقص الكبير في الاهتمام بتعدين المعادن الأكثر أهمية للاقتصاد الأميركي وامنه القومي، وبالتالي فإن أسباب تراجع الاهتمام بتعدين المعادن الحيوية محلياً عملية معقدة، وترجع إلى عوامل منها طول مدة تنفيذ المشروع، وارتفاع تكاليف بدء التشغيل، وعدم استقرار أسعار السلع، والمخاطر المالية الكبيرة.
ونوه بأن الولايات المتحدة يمكن أن تضمن النجاح في هذا الملف من خلال ضخ رأس المال على نطاق واسع أي ان تحذو حذو الصين من خلال التمويل والاستثمار الاستراتيجي في منتجي العناصر الأرضية النادرة وبنيتها التحتية. يتطلب تطوير العناصر الأرضية النادرة، وخاصةً التكرير، رأس مال ضخماً، إلى جانب إرساء استقرار الأسعار، وتبسيط التصاريح البيئية وسرعة إصدارها وإزالة العوائق، بالإضافة إلى إنشاء مركز تكرير مركزي.
أميركا لم تستوعب مبكراً حجم الأزمة واستجابتها ستستغرق وقتاً طويلاً
من جهته، يؤكد الخبير الاقتصادي الدكتور مصطفى بدرة في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن السياسة لعبت دوراً حاسماً في رسم مساري اليابان والولايات المتحدة في مواجهة هيمنة الصين على سوق المعادن النادرة. وأشار إلى أن العرض الصيني الكبير والأسعار العالمية التي تفرضها بكين هي ما يؤكد سيطرتها المطلقة في هذه الصناعة.
وقال الدكتور بدرة إن اليابان تبنت رؤية سياسية استباقية سمحت لها بالتحرك بفاعلية لتقليص اعتمادها على الصين. وأوضح أن هذا التحرك، الذي كان قائماً على خطوات استباقية ورؤية واضحة للقدرات التصنيعية المستقبلية، مكن طوكيو من تحقيق "تحسن في الصناعة" والخروج من قبضة الهيمنة الصينية.
وفي المقابل، يرى بدرة أن الولايات المتحدة لم تستوعب مبكراً حجم الأزمة الاقتصادية، وأن استجابتها المتأخرة ستستغرق وقتاً طويلاً، ربما لسنوات، لتحسين القدرات الاقتصادية المفقودة. وربط ذلك بما أسماه "عدم استيعاب الأميركيين" لحجم السيطرة الصينية. كما أشار إلى أن اعتراف الرئيس الأميركي نفسه بأن فرض الرسوم الجمركية كان له تأثير سلبي على الوضع الاقتصادي الأميركي هو دليل على هذا التأخر.
الصين تجذب الشركات الأميركية
وفي سياق آخر، أوضح بدرة أن الحرب التجارية الدائرة بين البلدين هي في الأساس "حرب لجذب الشركات للعودة مرة أخرى إلى السوق الأميركية". وشدد على أن الإدارة الأميركية في عام 2010 لم تحفز الشركات بتقديم مميزات أو فرص استثمارية، وهو ما استغلته الصين لتكسب هذه الشركات وتُسرع في تحقيق هيمنتها على الصناعات المعدنية.
وأكد الخبير الاقتصادي بدرة أن الصين أصبحت الآن رقم واحد في تصدير المواد الخام للعالم، وهو ما يمنحها ميزة تنافسية كبيرة. وأشار إلى أن هذه الهيمنة قد تمتد لتشمل القارة الأفريقية من خلال شراكات جديدة في مجالات التعدين والصناعات المشابهة، لتعزيز سيطرتها العالمية.
0 تعليق