بين أروقة محكمة الاستئناف الفيدرالية في واشنطن، وقاعات قمة منظمة شنغهاي للتعاون في بكين، يتجسد مشهد يعكس تحولات عميقة في النظام الاقتصادي العالمي. حكم قضائي أميركي اعتبر أن معظم الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب غير قانونية، فتح الباب أمام سلسلة من التداعيات الداخلية والخارجية.
وفي المقابل، تطرح الصين مع شركائها عبر قمة شنغهاي ملامح نظام مالي وتجاري جديد يسعى لتقليص هيمنة الدولار الأميركي وإعادة توزيع موازين القوى الاقتصادية.
هذا التزامن ليس عرضياً؛ بل يمثل لحظة فارقة تُظهر كيف تتقاطع الأزمات الداخلية الأميركية مع طموحات قوى دولية صاعدة. التقرير التالي يرصد أبعاد هذا التحول، معتمداً على المعطيات الرسمية، الأرقام الدقيقة، وتحليل محمد علي ياسين، الرئيس التنفيذي لشركة مزايا الغاف من لونيت، الذي قدّم رؤية معمّقة خلال حديثه إلى برنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية.
حكم استئناف يربك البيت الأبيض
حكمت محكمة الاستئناف الفيدرالية بأن غالبية الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على معظم الدول تجاوزت الحدود القانونية. القرار أثار غضب الرئيس الأميركي، الذي وصفه بـ"الكارثة" القادرة على تدمير الاقتصاد الأميركي، متوعداً برفع القضية إلى المحكمة العليا.
التداعيات المباشرة للحكم جسيمة. فالدول المتضررة – من الصين والهند والبرازيل والمكسيك وكندا، إلى الاتحاد الأوروبي واليابان – تجد الآن فرصة لإعادة التفاوض على الشروط التجارية. الأخطر، أن تأييد المحكمة العليا لإلغاء الرسوم قد يُلزم واشنطن برد رسوم جمعت منذ إبريل وحتى نهاية يوليو، تُقدَّر قيمتها بـ 99 مليار دولار. هذا المبلغ وحده يمثل ضربة موجعة لوزارة الخزانة الأميركية، ويعطل خطط ترامب لجمع إيرادات بقيمة 3 تريليونات دولار خلال عشر سنوات، كان يعوّل عليها لتمويل تخفيضاته الضريبية وسد عجز الميزانية.
تداعيات مالية على الداخل الأميركي
يضع الحكم القضائي الاقتصاد الأميركي أمام اختبار معقد. فالتزامات الرد المالي ستفاقم الضغوط على الخزانة، في وقت تسجل فيه الولايات المتحدة عجزاً مزمناً في الميزانية. كما أن الرهان على التعرفات الجمركية كمصدر رئيسي للإيرادات يواجه الآن انهياراً قانونياً.
من منظور الأسواق، يثير الحكم أسئلة حول مصداقية السياسات الاقتصادية الأميركية. محمد علي ياسين يرى أن السياسات التي تبنّاها ترامب في السنوات الأخيرة خلقت حالة من "الاستقطاب الداخلي"، حيث انقسم الاقتصاديون أنفسهم حول جدوى التعرفات. بعضهم وصفها بأنها "ديكتاتورية اقتصادية" تتعارض مع مبادئ الاقتصاد الحر التي قامت عليها الولايات المتحدة منذ الكساد الكبير.
قمة شنغهاي: إعلان طموح لنظام عالمي جديد
على الضفة الأخرى من العالم، اجتمع قادة 20 دولة في بكين، في أضخم قمة لمنظمة شنغهاي للتعاون منذ تأسيسها قبل 24 عاماً. من بين الحاضرين الرئيسان الصيني والروسي ورئيس الوزراء الهندي، وجميعهم على خلاف مع واشنطن في ملفات متعددة.
القمة ركزت على أهداف استراتيجية:
تعزيز التعاون الأمني. توسيع الشراكة الاقتصادية عبر مشروع الشراكة الأوراسية الكبرى بقيادة الصين وروسيا. إعادة هيكلة العلاقات المالية العالمية، مع تقليص الاعتماد على الدولار الأميركي. زيادة استخدام العملات المحلية في التبادلات التجارية.الأرقام تمنح هذه الطموحات ثِقلاً: دول المنظمة تمثل سوقاً استهلاكياً يضم 3.2 مليار شخص، أي نحو 40 بالمئة من سكان العالم، ويبلغ اقتصادها مجتمعاً حوالي 25 تريليون دولار، أي ما يعادل ربع حجم الاقتصاد العالمي. وإلى جانب الثقل الاقتصادي، تمتلك المنظمة موارد استراتيجية في الأمن الغذائي والطاقة والصناعة، إضافة إلى القوة العسكرية.
الصين في موقع القيادة
يصف محمد علي ياسين المشهد بوضوح قائلا ان : "السياسات الأميركية هي التي دفعت قوى لم تكن لتتقارب إلى طاولة واحدة". ويستشهد بصورة جمعت الرئيسين الصيني والروسي ورئيس الوزراء الهندي وهم يتبادلون الحديث بانسجام، باعتبارها دليلاً على تحالف جديد يتشكل بفعل ضغوط واشنطن.
ويضيف أن رفع ترامب الرسوم على الهند، على سبيل المثال، شجع نيودلهي على الحضور الفاعل في القمة، ما يعكس أن سياسات الضغط الأميركية تولّد نتائج عكسية. الصين من جانبها تستغل الظرف لتقدم نفسها كمنقذ وحليف استراتيجي، ليس فقط بدافع سياسي، بل بحكم كونها "المصنع الأكبر في العالم" الباحث عن أسواق بديلة بعد القيود الأميركية.
الصين اليوم تفتح أسواقاً في أفريقيا وآسيا، وتستخدم ما يسميه ياسين "القوة الناعمة" عبر الاستثمارات وتصدير رأس المال، بدلاً من القوة العسكرية. هذه الاستراتيجية تمنحها حضوراً مقبولاً لدى كثير من الدول التي تبحث عن شريك بديل أو موازن أمام الولايات المتحدة.
أزمة الدولار والاحتياطي العالمي
شدد ياسين خلال مداخلته على أن الدولار يظل "أهم عوامل الاستثمار" لأنه عملة الاحتياطي العالمي. لكن السياسات التي حاول ترامب فرضها، بما في ذلك التدخل في استقلالية الفيدرالي الأميركي، أضعفت الثقة.
يشير إلى أن الأسواق المالية ليست بالكامل بيد السياسيين؛ فإذا رأى المستثمرون أن السياسات الأميركية تولد ديوناً غير مستدامة، فإنهم يرفعون كلفة الاقتراض، كما حدث مع حكومة ليز تراس في بريطانيا. السياسات الشعبوية قد تهز ركائز ثقة لم تتزعزع منذ أكثر من 70 أو 90 عاماً، منذ الكساد الكبير الذي أدى لتأسيس الفيدرالي الأميركي.
الخطورة لا تقتصر على الولايات المتحدة فقط. فكل الدول المرتبطة عملاتها بالدولار ستشهد تقلبات عالية إذا تراجعت الثقة به. وهذا يعزز مساعي شنغهاي إلى تعزيز التعامل بالعملات المحلية لتقليل التعرض لمخاطر الدولار.
الاقتصاد الأميركي بين القوة والارتباك
رغم كل ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تملك أوراقاً قوية. فهي تمثل وحدها 25 بالمئة من الناتج العالمي، مع نسبة سكان لا تتجاوز 5 بالمئة من سكان العالم. كما أن الاقتصاد الأميركي يسجل نمواً بمعدل 3.3 بالمئة في آخر قراءة، وهو أداء مستقر منذ جائحة كوفيد.
لكن التساؤل، كما يطرحه ياسين: لماذا يتخذ ترامب خطوات تُرجع الاقتصاد إلى الوراء بدل دعم هذا المسار الإيجابي؟ السياسات الجمركية، برأيه، تضعف التنافسية وتفتح المجال أمام تكتلات مضادة.
انعكاسات على الأسواق العالمية
السياسات الأميركية تسببت في اضطرابات بأسواق الأسهم والعملات. في الولايات المتحدة، أسهم التكنولوجيا حققت ارتفاعات كبيرة لكنها تبدو هشة. سوق المال الأميركي أصبح رهينة نتائج شركات مثل "إنفيديا"، وهو ما يراه ياسين إشارة غير صحية على اعتماد الاقتصاد على قطاع ضيق.
في المقابل، أسواق الصين شهدت ارتفاعات لافتة، مثل قفزة سهم "علي بابا"، ما يعكس ثقة متزايدة في قدرة بكين على تعزيز استقلالها الاقتصادي والتكنولوجي. هذا التحول يمنح المستثمرين خيارات بديلة عن السوق الأميركي.
قراءة في المستقبل القريب
من الآن وحتى نهاية العام، يتوقع ياسين أن تشكل التراجعات الأخيرة في أسواق الأسهم الخليجية فرصة للمستثمرين الباحثين عن عوائد مجزية. يشير إلى أن القطاع البنكي حقق نمواً تراوح بين 30 و50 بالمئة في الأشهر السبعة الأولى من العام، ولا يتوقع أن يتراجع توزيعه للأرباح رغم بعض الضغوط.
كما يرى أن أي خفض إضافي في الفائدة الأميركية قد يعزز جاذبية السندات والصكوك كملاذ آمن في الأشهر المقبلة، خاصة مع ارتباط العملات الخليجية بالدولار.
بين قرار قضائي يهز أساس سياسات ترامب التجارية، وقمة شنغهاي التي تُظهر طموحات الصين لقيادة نظام عالمي بديل، يقف الاقتصاد الدولي عند مفترق طرق. الولايات المتحدة ما تزال القوة الاقتصادية الأولى، لكن خطواتها المثيرة للجدل فتحت ثغرات تستغلها بكين وموسكو ونيودلهي لإعادة رسم ملامح النظام المالي والتجاري.
0 تعليق